ما الذي يجري في العراق؟ هل من أمل في تحسن الوضع فيه أم أن المواقف المتناقضة مما يدور في هذا البلد، خصوصًا المواقف الامريكية الغريبة تؤكد أن لا بد من الانتظار قليلا، أو ربما طويلا، قبل أن يتجاوز العراق ومعه المنطقة ما يمكن وصفه بأنه مرحلة انتقالية أكثر من أي شيء آخر. كان السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته في غاية الصراحة عندما دعا الجيش العراقي قبل أيام إلي التخلي عن «الطائفية والعشائرية والمناطقية» وإلي أن يكون جيشا لكل العراقيين ولكل العراق. دعا أيضا قادة الجيش العراقي إلي «تنفيذ كل المهمات الأمنية وعدم انتظار تأليف حكومة جديدة» كلام المالكي يعني بكل بساطة أن هناك بالفعل مشاكل كبيرة تعترض تحول الجيش العراقي إلي جيش وطني كذلك، يعني هذا الكلام أن الأمن في العراق لا يمكن أن ينتظر تشكيل حكومة جديدة في أسبوع أو شهر أو سنة أو ما يزيد علي ذلك. ولعل ذلك ما دفع رئيس الأركان الفريق أول بابكر زيباري إلي أن يكون أكثر صراحة وأكثر واقعية من رئيس الوزراء المنتهية ولايته. قال زيباري إن الجيش العراقي لن يكون جاهزا لتولي مهمات حماية البلاد داخليا وخارجيا قبل السنة 2020، أي أنه لابد من انتظار عقد من الزمن كي يصبح الجيش جاهزا وكي يكون قادرا علي تأدية الدور المطلوب منه علي الصعيد الوطني. بين صراحة المالكي وواقعية زيباري، قدم مسئولون امريكيون عرضا متفائلا بالوضع العراقي علي الرغم من أن البلد من دون حكومة منذ ما يزيد علي خمسة اشهر كما أن هناك زيادة حادة في عدد القتلي من المدنيين في يوليو الماضي، جاءت تلك الزيادة في وقت تسعي الدوائر الأمريكية إلي إخفاء العدد الحقيقي لضحايا العنف والإرهاب وكأن المطلوب في الوقت الراهن تبرير الانسحاب الامريكي المحدود من هذا البلد وانهاء المهمات القتالية آخر الشهر الجاري، بأي ثمن كان، وجعل الوجود العسكري فيه مقتصرا علي تدريب القوات العراقية، وذلك حتي آخر السنة 2011، إنها سياسة لا علاقة لها بالواقع تدل علي أن الأمريكيين مصممون علي الانسحاب من العراق وتركه فريسة للمشاكل التي خلفها غزوهم لذلك البلد. لذلك لم يتردد بن رودوس نائب مستشار الرئيس باراك أوباما لشئون الأمن القومي في القول أن العراق «في مسار إيجابي» بدا المسئول الأمريكي الكبير وكأنه يتحدث عن بلد آخر! ارتأي قائد القوات الامريكية في العراق الجنرال راي أوديرنو المزايدة علي رودوس فقال: «ان شهر يوليو 2010 كان ثالث أقل الأشهر عنفا منذ يناير من العام 2004، ردد اوديرنو هذا الكلام في واشنطن علي مسمع أعضاء مجلس الأمن القومي في حضور أوباما علي الرغم من كل الأرقام الموثقة تشير إلي أن الشهر الماضي كان من أسوأ الأشهر في العراق علي الصعيد الأمني وأن ليس ما يشير إلي أن موجة العنف تنحسر، خصوصا في ظل انسداد الأفق السياسي في البلد. عندما رد رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته علي رئيس الأركان محاولا التخفيف من وقع تصريحاته التي يؤكد فيها أن الجيش العراقي ليس جاهزا ولن يكون جاهزا قبل عشر سنوات، جاء كلام المالكي، عن قصد أو غير قصد، داعما لرأي الفريق أول زيباري، بل أكثر تشاؤما منه. ما العمل بجيش يعاني من «الطائفية والعشائرية والمناطقية» باعتراف الرجل نفسه الذي يتزعم حزبا مذهبيا من جهة ويعتبر أن من حقه تشكيل الحكومة العراقية الجديدة علي الرغم من أن حزبه حل ثانيا في الانتخابات الأخيرة من جهة أخري. يمكن فهم واقعية رئيس الأركان العراقي كذلك، يمكن فهم كلام المالكي الذي يتضمن مجموعة من التناقضات، خصوصًا عندما يطلب من الجيش أن يكون لجميع العراقيين فيما يعاني هذا الجيش من أمراض قاتلة في النهاية، يريد رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته تأكيد أن لديه مهمة وطنية وأنه سيسعي لدي اعادته إلي موقع رئيس الوزراء إلي معالجة الأمراض التي تعاني منها القوات المسلحة العراقية... ما دام حدد طبيعة هذه الأمراض. ما لا يمكن فهمه هو التفاؤل الأمريكي المبالغ به بمستقبل بلد لم يستطع حتي اعادة بناء أي مؤسسة من مؤسساته علي الرغم من مرور أكثر من سبع سنوات علي سقوط النظام العائلي، البعثي الذي اقامه صدام حسين كل من يزور بغداد أو البصرة هذه الأيام يعود بانطباع واحد هذا الانطباع يتلخص بأن المدينتين الكبيرتين تحولتا فعلا إلي مزبلتين، بل انهما مدينتان تعومان علي مزبلتين النفايات في كل مكان ولا ماء ولا كهرباء في عاصمة الرشيد وعاصمة الجنوب العراقي التي كانت في الماضي منارة من منارات منطقة الخليج كلها المنطقة الوحيدة في العراق التي فيها حياة طبيعية هي المنطقة الكردية وهذا عائد إلي أن الأكراد أخذوا أمورهم بيدهم وقرروا اقامة جيشهم والمحافظة علي الأمن والنظافة في منطقتهم بوسائلهم الخاصة. أين النجاح الامريكي وكيف يمكن الحديث عن أن «العراق في مسار إيجابي» هل المطلوب فقط احترام مواعيد الانسحاب لاسباب مرتبطة بالانتخابات الأمريكية - نوفمبر المقبل؟ هل مصدر الايجابية أن العراق في طريقه إلي أن يقسم ويصبح ثلاثة كيانات في أفضل الأحوال؟ هل هناك أهداف أمريكية غير معلنة من بينها الانسحاب عسكريا في أقرب وقت إلي موقع محصنة بعيدة عن المدن من أجل ألا يكون أفراد القوات الأمريكية في العراق مجرد رهائن لدي إيران في حال تعرضها لهجوم ما قبل نهاية السنة الجارية؟ الأمر الوحيد الأكيد أن الموقف الأمريكي من العراق محير ربما كان التفاؤل التعبير الأفضل عن مأزق عميق عائد إلي عجز ادارة أوباما عن التعاطي مع التركة الثقيلة لجورج بوش الابن لا أكثر ولا أقل! * كاتب لبناني