كان مهما ان يخرج عن الجنرال الأمريكي ستانلي ماكريستال، قائد قوات الحلف الأطلسي في أفغانستان الكلام الساخر الذي تناول الرئيس أوباما شخصيا ونائبه جو بايدن وعددا لا باس به من أركان الإدارة بمن فيهم مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي الجنرال جيمس جونز. كشف هذا الكلام ان الإدارة الأمريكية غير قادرة علي اتخاذ قرارات حاسمة علي الصعيد الخارجي وأنها لا تمتلك استراتيجية محددة في أي مجال من المجالات، خصوصا في أفغانستان. اراد ماكريستال أن يطرده أوباما من منصبه فحصل علي ما أراد. اقال أوباما قائد القوات في أفغانستان ولم يجد من يسد به الفراغ سوي الجنرال ديفيد بيتريوس. علما ان بيتريوس كان في موقع المسئول المباشر عن ماكريستال بصفة كونه قائد القيادة المركزية التي تقع أفغانستان ضمن صلاحياتها. لم يترك الجنرال ماكريستال للرئيس الأمريكي خيارا آخر غير خيار الطرد. ربما يعتبر ذلك وساما علي صدره. يظهر أن ماكريستال، الذي استدعي إلي البيت الأبيض فور انتشار كلامه، الذي أدلي به اصلا إلي مجلة "رولينغ ستون"، في وسائل الإعلام المختلفة داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، يريد الخروج من المأزق الأفغاني بأقل مقدار ممكن من الخسائر بالنسبة إلي شخصه. بكلام اوضح، يسعي الجنرال الأمريكي المعروف بمهنيته وجرأته إلي غسل يديه من المغامرة العسكرية في أفغانستان في غياب القدرة علي الحسم العسكري من جهة وغياب أي استراتيجية سياسية لدي الإدارة من جهة أخري. لم يخف استياءه من كل رجالات الإدارة، بما في ذلك السفير في كابول كارل ايكنبري الذي سبق له وعارض خطط ماكريستال الهادفة إلي زيادة عدد القوات الأمريكية في أفغانستان واستعادة المبادرة عسكريا في المواجهة مع "طالبان". لم يوفر سوي وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي ايدت دعوته إلي ارسال مزيد من القوات وإلي شن هجمات علي "طالبان" في معاقل الحركة. ربما كان ماكريستال يدرك قبل غيره أن المشكلة في أفغانستان سياسية قبل اي شيء آخر وأن عليه، في ضوء ازدياد عدد القتلي في صفوف قوات حلف شمال الأطلسي تفادي ربط اسمه بالهزيمة المحتملة أو بالحرب الطويلة التي ليس في استطاعة حلف شمال الاطلسي الخروج منتصرا منها. أكثر من ذلك، يتبين كل يوم ان الدول التي ارسلت وحدات إلي افغانستان لدعم الحرب الأمريكية هناك، تبحث عن مخرج. في مقدمة هذه الدول، تأتي بريطانيا التي تتعرض حكومتها لضغوط شديدة من أجل إنهاء التورط العسكري في أفغانستان، خصوصا بعد ارتفاع عدد القتلي في صفوف الجيش البريطاني إلي ما يزيد علي ثلاثمئة بينهم عدد من الضباط والجنود اللامعين الذين اظهروا شجاعة فائقة في المعارك التي خاضوها في ظروف أقل ما يمكن ان توصف به انها قاسية. تركت القصص التي نشرتها الصحف البريطانية عن ضباط وجنود قضوا في أفغانستان في ظروف ماساوية شعورا بالمرارة في مختلف الاوساط الشعبية. جعل هذا الشعور البريطانيين يتساءلون صراحة: ما الذي يفعله جيشنا في أفغانستان وإلي متي كل هذه الخسائر في حرب لا طائل منها، وإلي متي تستمر الخزينة البريطانية في تحمل تكاليف باهظة فيما البلد في أزمة اقتصادية فرضت اجراءات تقشف لا سابق لها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ لا شك أن تمرد الجنرال ماكريستال مرتبط، في جانب منه، بغياب الحماسة لدي الحلفاء في متابعة الحرب التي خسرها الأمريكيون بمجرد انهم لم يتنبهوا منذ البداية إلي أنه كان عليهم تركيز جهودهم علي الانتهاء من "طالبان" و"القاعدة" قبل الانصراف إلي العراق. من الناحية العملية، لا وجود لاستراتيجية رابحة في أفغانستان مادام الجيش الأمريكي مشتتاً وغير قادر علي اقتلاع "طالبان" من جذورها لاسباب عدة في مقدمها انه لا يستطيع الاتكال علي باكستان وجيشها وأجهزتها الأمنية نظرا إلي أنها تلعب دور الحديقة الخلفية ل"طالبان". هل يمكن إذًا الحديث عن جنرال انتهازي يمتلك طموحات سياسية يري منذ الآن أن عليه حماية مستقبله عن طريق ابعاد نفسه عن المغامرة الأفغانية؟ الثابت أن ماكريستال ما كان ليقدم علي ما اقدم عليه لولا علمه ان افتعال مشكلة مع إدارة أوباما سيصب في مصلحته. يبدو أن الرجل يعرف تماما ان التركة التي خلفها الرئيس بوش الابن لباراك أوباما ستغرق إدارته. اخذ بوش الابن الجيش الأمريكي إلي العراق في العام 2003 غير مدرك أن النظام الذي اقامه في كابول غير قادر علي الوقوف علي رجليه. سيخرج الجيش الأمريكي من العراق في السنة المقبلة وسيزداد التركيز علي افغانستان من دون تحقيق نتائج تذكر. هناك دوران أمريكي في حلقة مغلقة لا يمكن كسرها، خصوصا ان مصدر قوة "طالبان" هو باكستان التي لا تعرف الولاياتالمتحدة، إلي اشعار آخر، كيف التعاطي معها. تبدو باكستان شرا لا بدّ منه. أنها حليف للولايات المتحدة وعدو لها في الوقت ذاته! من يقرأ نبذة عن حياة ماكريستال، يكتشف ان الرجل ليس غبيا. كان يعرف تماما الثمن الذي سيتوجب عليه دفعه. قال كلمته ومشي. السؤال الآن هل حسابات القائد السابق لقوات حلف شمال الاطلسي في أفغانستان في محلها؟ الارجح أنه اقدم علي حسابات دقيقة إلي حد كبير وحقق الهدف الذي اراده. وبغض النظر عما إذا كانت لديه طموحات سياسية ام لا، الأكيد انه انقذ سمعته العسكرية وتفادي الغرق في المستنقع الأفغاني الذي وجدت ادارة أوباما نفسها في وسطه. ما هذه الحرب التي يخوضها جيش عليه ان يدفع، استنادا إلي تقرير اعده محققون تابعون للكونغرس، ملايين الدولارات لميليشيات متحالفة مع "طالبان" كي يؤمن له رجالها نقل الوقود والامدادات لقواته؟ يظهر أن الجنرال ماكريستال وهو رجل طبيعي لا أكثر، وجد نفسه في وضع غير طبيعي. تصرف بطريقة تحمي مستقبله بعدما تبين له أن لا مستقبل واعدا لإدارة اوباما في أفغانستان... وغير افغانستان وان باراك أوباما لا يستطيع أن يكون رئيسا لأكثر من ولاية واحدة! كاتب لبناني