هل الجنرال المقال ستانلي ماكريستال أراح واستراح وأخرج كل ما في جعبته قبل أن يرحل عن منصبه بقرار إقالة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك في قلب العسكرية الأمريكية التي وضعت شخصية كبيرة بحجم ماكريستال في حيرة وجعلت منه- علي غرار عنوان رواية الكاتب الكولومبي الشهير جابريل جارسيا ماركيز- جنرالا في متاهة.. وليس من الواضح تماما ما إذا كان الجنرال وحده في المتاهة أم أن هناك أخرين في الإدارة في نفس الموقف! حققت عملية الإطاحة بالجنرال ماكريستال من منصبه في قيادة القوات الأمريكية في أفغانستان علي خلفية حديثه الصريح عن أركان مهمة في الإدارة الحالية في تحقيق مع مجلة' رولنج ستونز' أكثر من هدف للرئيس باراك أوباما ومنها سرعة التحرك للتخلص من التنافر في العلاقة بين الإدارة والقيادة العسكرية في أفغانستان والتي توترت في الشهور الأخيرة وشهدت عمليات تسريب لخطط ومذكرات عن الإستراتيجية المنفذة في أفغانستان وهو ما ترك الكثيرين في حالة تعجب من درجة انكشاف الإدارة امام الرأي العام ممثلا في الصحافة وشبكات التليفزيون الأمريكية وبالتالي الفرصة جاءت لتولية شخصية عسكرية جديدة إدارة الوضع المعقد في الجبهة الأفغانية دون أن تثير مشكلات او تتقطع بها سبل التواصل مع الشخصيات النافذة حول أوباما.. ولذلك لم يتردد الرئيس في تعيين الجنرال ديفيد بتريوس قائد القوات الأمريكية في العراق بديلا عن الجنرال المقال والمعروف بارتباطه بعلاقات جيدة مع الشخصيات المدنية المسئولة عن إدارة العمليات العسكرية- علي حد وصف الرئيس نفسه. والأمر الثاني أن الرئيس أوباما تلافي في عملية الإطاحة بالجنرال ماكريستال بعض أخطاء الفترة الماضية المتمثلة في البطء في حسم المواقف واتخاذ قرارات سريعة تلبي حجم الضرر الواقع في أزمات سابقة وهو ما نال بشأنه انتقادات حادة في أزمة تسرب البترول في خليج المكسيك وعدم التحرك ضد شركة' بريتش بتروليم' البريطانية علي نحو سريع. هذه المرة, نال الرئيس أوباما استحسانا من اليمين واليسار علي تحركه ضد الجنرال ماكريستال من اليمين واليسار حيث رأي اليمين أن هيبة العسكرية الأمريكية ووجود عشرات الالاف من الجنود الأمريكيين في أفغانستان ما كان يجب أن تمس من جانب الجنرال القدير. كما رفض اليمين واليسار المساس بمكانة الرئيس الأمريكي ونائب الرئيس حتي لو كان النقد من شخصية عسكرية كبيرة. وكان ماكريستال قد تحدث بصراحة في حواره مع المجلة الأمريكية التي تعتمد علي أخبار الفن وليس لها رصيد في السياسة ولكنها تهتم بجوانب تحقق لها الانتشار من وقت إلي آخر مثلما نشرت في السابق غلافا مثير للجدل عن أسوأ الرؤساء الأمريكيين وجاء الرئيس جورج دبليو بوش- بناء علي استطلاع لجهابذة التاريخ في أمريكا- في المقدمة بجدارة. وطال ماكريستال في نقده الرئيس أوباما ونائبه جوزيف بايدن ومستشار الأمن القومي جيمس جونز والمبعوث الخاص في أفغانستان وباكستان السفير ريتشارد هولبروك والسفير الأمريكي لدي كابول أكينبري. ويقول المحللون إن أوباما والجنرال المبعد من منصبه كان يتفقان حول الإستراتيجية الخاصة بزيادة عدد القوات في أفغانستان والتي تولي ماكريستال تنفيذها بعد إبعاد سلفه الذي نفذ إستراتيجية الرئيس جورج بوش ولذلك كان من الطبيعي أن تتردد اقاويل ان الأمر أبعد من مجرد خلاف في وجهات النظر بين جنرال كبير والإدارة الأمريكية خاصة أن كلمات الجنرال قد طالت طريقة التعامل مع السياسات المطبقة وتناول بشكل ساخر الشخصيات البارزة حول أوباما. وتقول التحليلات المتناثرة عن المقابلة' بروفيل' الذي نشرته المجلة للجنرال, بعد ثلاثة أشهر من العمل في التقرير الصحفي علي الأرض في أفغانستان, أن هناك جوانب محبطة فيما نشر تثير علامات استفهام حول القوات الأمريكية في افغانستان أولها أن القوات الأمريكية غير مرشحة للبدء في مغادرة افغانستان العام المقبل مثلما خطط أوباما عندما تولي منصبه قبل عام ونصف العام بل وتحتاج القوات الأمريكية اليوم إلي مزيد من الدعم لهزيمة التمرد وربما تحتاج العسكرية الأمريكية إلي طلب رفع مستوي القوات في الصيف الجاري. والأمر الثاني, أن رئيس العمليات للقوات الأمريكية الجنرال بيل ميفيل وصف الوضع في أفغانستان بأنه لا يمكن أن يحقق الفوز لأمريكا وقال بالنص' ان هذا لا يمكن أن يبشر بفوز أو حتي رائحة أو مذاق الإنتصار'. والأمر الثالث, أن مستشار بارز للجنرال ماكريستال قال:' لو انتبه الأمريكيون إلي هذه الحرب.. فإنها ستصبح أقل شعبية من ذي قبل' في إشارة إلي أن الأمريكيين لا يلتفتون إلي ما يدور في أفغانستان بشكل كاف ولو فعل الرأي العام ذلك سينحدر مستوي الدعم الشعبي للوجود الأمريكي في هذا البلد. وقالت شخصيات عسكرية إن ما حدث هو درس كبير ويقدم فرصة لتأكيد ضرورة تنفيذ مدونة السلوك العسكري بحذافيرها وبلا تهاون بينما قال محللون أن رسالة أوباما كانت واضحة في تصريحاته, التي اعقبت مقابلته للجنرال المبعد من منصبه, عن استمرار الإستراتيجية في أفغانستان علي حالها وأن تغيير الشخصيات لا يعني تراجعا من الإدارة. كما أن اسناد المنصب إلي الجنرال بتريوس المتخصص في مكافحة التمرد هو إشارة علي النهج المستمر في عمليات مواجهة حركة طالبان علي الأرض في الفترة المقبلة وإن كان البعض يخشي من أن تفقد العملية العسكرية حالة الزخم بعد رحيل الجنرال ماكريستال. وقال الجنرال الشهير ويسلي كلارك إن المواجهة في أفغانستان وباكستان شديدة الصعوبة حيث تلعب الجغرافيا الوعرة دورها في صعوبة التنبؤ بالفوز في هذه الحرب ضد طالبان. أخطر ما ورد علي لسان أوباما في نص كلمته بعد تنحية ماكريستال هو ما ذكره عن تجاوز مسئول عسكري في حق الإدارة المدنية للقوات المسلحة وهو ما يهدد أساس النظام الديمقراطي للدولة الأمريكية وهو ما كشف عن حساسية مفرطة تجاه التعدي علي سلطات الدولة المدنية وإدارتها للشأن العام حتي لو كان ذلك عبر السخرية والهزل. ومن المتوقع أن يصدق مجلس الشيوخ علي تعيين الجنرال بتريوس يوم الثلاثاء المقبل دون اي عقبات محتملة. في جميع الحالات, كشف الجنرال المغادر للميدان والذي أنهي تاريخه العسكري بيديه الغطاء عن تراكمات وتوترات كثيرة بشأن الحرب علي الإرهاب وطريقة إدارتها.