حاجة غريبة جداً، هذا أبسط وأقصر تعليق سوف تقوله بعد أن تقرأ كتاب شيخ النقاد المفكر والكاتب الموسوعي «الدكتور محمد مندور» وعنوانه «الصحافة وحريتها.. الفنون ووحدتها» الذي أعده الطبيب «الدكتور» «طارق» نجل الدكتور مندور في سلسلة المئويات التي تصدر عن مكتبة الأسرة أصدق وأشمل وأجمل مشروع ثقافي مصري تقوده بحب وصدق ودأب السيدة الفاضلة «سوزان مبارك». أغلب هذه المقالات يعود تاريخ نشره إلي منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، وكتبها د.مندور في صحف ومجلات عديدة منها الوفد المصري، بلادي، صوت الأمة، الشعب، البوليس، الكاتب وغيرها. فعلا حاجة غريبة جدا فهذه المقالات المنشورة عام 1945 وما بعدها تناقش أحوال الصحافة والصحفيين كأنها تناقش أحوال اليوم رغم مرور حوالي 65 سنة علي تاريخ كتابتها. في مقال عنوانه «الصحافة المؤيدة والمعارضة» يقول د. مندور: «لوحظ أن صحف المعارضة كثيرا ما تلقي رواجا لدي الجمهور وإقبالا عليها أكثر من الصحف المؤيدة ولهذه الظاهرة أسباب سياسية ونفسية لابد أن تفطن إليها الصحف. إن المعارضة تتحدث دائما عن مثل عليا وأهداف خارقة وهذا هو دأب الأحزاب خارج الحكم، حتي إذا تحملت المسئولية اصطدمت الآمال بالحقائق وقهرت القدرة علي بلوغ الأمل وتستغل المعارضة هذه الحقيقة البديهية لكي تكسب الشعب الذي يتغذي بالآمال عن مرارة الحياة ويجد فيها متنفسا وسرابا ويجري وراء ذلك يلتمس في صحف المعارضة هذا العزاء الروحي الذي يعوزه «!!». ثم يتحدث د. محمد مندور عن سبب آخر قد يكون ناتجا عن وعي القراء كما قد يكون عن غير وعي فيقول: فنحن عادة لا ترتاح نفوسنا إلي كثرة المديح في الغير وذلك لأن مثل هذا المديح كثيرا ما يجرح كبرياءنا الشخصية علي وعي منا أو علي غير وعي وقديما قال «بركليز» الزعيم اليوناني الكبير «إن المرء لا يستسيغ من مدح الغير إلا بقدر ما يعتقد أنه قادر علي الاتيان بمثله، فإذا جاوز المديح هذا الحد ولد الحسد والنكران!». وربما كان في هذه الحقائق النفسية ما يفسر تعذر الناس من الصحف المؤيدة وبخاصة إذا ذكرنا أن هذه الصحف تسرف في المديح والمبالغات فيغطي هذا الزبد التافه جوهر الفعل الخير الصالح، ولقد فطنت بعض الصحف العالمية الكبري إلي هذه الحقيقة وراعتها حتي في منهج دعايتها الحزبية مثل جريدة «الديلي هيرالد» التي اجتمع مجلس إدارتها بعد إنشائها بفترة وبعد أن لاحظ تدهور الجريدة وانكماش رواجها نتيجة لإسرافها في الدعاية الحزبية فاتخذ قرارا يقضي بألا تتجاوز هذه الدعاية 10% من مساحة الجريدة وعلي أثر هذا القرار انتعشت الجريدة حتي أصبحت من أوسع الجرائد انتشارا ومن أقواها أثرا في نشر الدعاية لحزب العمال في انجلترا. ثم يضيف د. مندور قوله: «إن النقد اسهل دائما من العمل، وكل عمل إنساني لابد أن يقصر عن الكمال، ولكن الإنسان فيه ظمأ أبدي إلي هذا الكمال وهذا الظمأ يتلهف دائما علي ما يرويه أو يطفئ ظمأه، ولذلك يقبل الناس علي صحف النقد والمعارضة بوعي منهم أو بغير وعي لأنها تشبع غريزة متأصلة في النفوس وهي غريزة التسامي والتماس الكمال في كل عمل بشري حتي ولو كان هذا الكمال شرا لا يمكن أن يدركه هذا وأنه وإن تكن المعارضة أميل إلي قياس مواضع الضعف والخطأ أو التقصير إلا أن المعارضة النزيهة قد تعترف للآخر بفضل، ولعل هذا الاعتراف بالفضل إذا وجد يزيد من معارضتها قوة وتأثيرا وذلك لأنها بمثل هذا المنهج النزيه تكتسب ثقة القراء بخاصة القراء الذين لا ينتمون إلي حزبها، وهم القراء الذين يهدف عادة إلي كسبهم، إذ إن كسب أنصارها ورجال حزبها أمر مفروغ منه وهي بمعارضتها إنما تتعهد اتجاها ثابتا عند هؤلاء الانصار ولكنها لا تعمل علي خلفية بينما تسعي إلي كسب أعضاء جدد. ولعل آخر سبب يشير إليه الدكتور «مندور» هو أن القراء يعتقدون عادة أن الصحف المعارضة هي التي تنشر كل الحقائق والأخبار ولا تخفي منها شيئا، بينما يظنون أن الصحف المؤيدة كثيرا ما تقتصر علي نشر ما يشرف الحكومة أو يعزز مكانتها عند الجمهور بينما تهمل نشر ما قد يكون موضع مؤاخذة للحكومة أو دليلا علي الخطأ أو التقصير، وبذلك يضاف إلي رصيد صحف المعارضة سبب جوهري كبير هو اتساع دائرتها الإخبارية، وبالتالي قدرتها الأكبر علي تنوير الرأي العام وايصال الأخبار إليه فضلا عن اشباع فضول القراء ورغبتهم في استطلاع الأسرار والكشف عن الخبايا وكثيرا ما تكون هذه الظنون صحيحة وبخاصة عندما تكون الحكومة ضعيفة الثقة في نفسها أو غير مطمئنة إلي رضاء الشعب عنها أو شرعية وجودها. كان هذا مجرد مقال واحد لفت انتباهي من بين مائة وعشرين مقالا بديعا للدكتور مندور الذي رحل عن عالمنا سنة 1965، لكن تلامذته لم ينسوه كل التحية والتقدير لابنه الدكتور طارق مندور، وكل التحية والامتنان للمثقف الكبير الدكتور فوزي فهمي الذي تقطر حروف مقالاته صدقا وأدبا ومعرفة.