في مصر ظاهرة غريبة يكاد لا يوجد نظير لها في العالم، وهي ظاهرة السياسي الذي يدعي الاستقلالية ولا ينتمي إلي أي تيار سياسي، ولا يعبر عن أي توجه تنظيمي، هو سياسي يعتقد أنه فوق أي تيار.. وهو سياسي يشعر أنه فوق الجميع، ولذا من الصعب أن يحصر نفسه وأن يحشر نفسه مع الآخرين، هو سياسي يشعر أنه مؤسسة في حد ذاته وعلي الآخرين الانضمام إلي مؤسسته إن أرادوا النجاح هو سياسي يشعر أنه مدرسة رائدة، وعلي الآخرين أن يلتحقوا بهذه المدرسة، وأن يكونوا من مريديه، هو سياسي خارج نطاق التأطير، وفوق مستوي التنظير.. هو ببساطة شديدة ذلك «اللامنتمي» الذي أشارت إلي خصائصه كثير من الدراسات النفسية والاجتماعية، وذلك «المغترب» الذي يعيش في عالمه الذي لا يمت إلي الواقع بصلة.. وفي مجال العمل السياسي إذا لم يرتبط السياسي بالناس، ولم يستطع أن يتفاعل مع مشكلاتهم وأمانيهم، فعليه أن يلزم بيته، أو يسكن في أبراج الفلسفة العاجية قريبا من شخصية راهب الفكر التي صورها بعبقرية توفيق الحكيم في روايته البديعة «الرباط المقدس». والغريب أن هذا التوجه الحديث لدي بعض السياسيين المصريين المعاصرين، لا تكاد تجد له سوابق تاريخية في الحياة السياسية المصرية إلا علي سبيل الاستثناء.. ففي مرحلة ما قبل الثورة، لا تكاد تجد سياسيا مستقلاً، أو مفكرًا أو مثقفًا ليس له حزب سياسي، يؤمن بمبادئه، ويعتقد في أفكاره ويروج لأهدافه، ويسعي إلي إعلاء شأنه فمصطفي كامل كان ينتمي إلي الحزب الوطني، الذي أسسه وأصبح منبرًا له في مواجهة الأحزاب الأخري المرتبطة بالإنجليز، ومن بعده جاء محمد فريد وأتباعه.. وسعد زغلول ورفاقه أسسوا حزب الوفد كمنبر لهم.. وأحمد لطفي السيد كان ينتمي إلي حزب الأحرار الدستوريين ومعه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والدكتور محمد حسين هيكل وآخرون.. والعقاد كان ينتمي إلي حزب الوفد، وكان كما وصفه سعد زغلول بأنه «كاتبه الأول».. وعندما ينقلب بعض السياسيين علي أحزابهم الأصلية لا يلجأون إلي الاستقلال وادعاء الكفر بالعمل الحزبي، بل يكون ذلك بتشكيل أحزاب جديدة أو الانضمام إلي أحزاب أخري قائمة.. فعلها مكرم عبيد عندما ترك حزب الوفد وأسس الكتلة الوفدية، وفعلها من قبله أحمد ماهر وأسس حزب السعديين، وفعلها إسماعيل صدقي عندما ترك حزب الأحرار الدستوريين وأسس حزب الشعب. وفي الدول الغربية، لا تكاد تجد نظيرًا لظاهرة الاستقلال السياسي.. ففي الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال، علي من يريد أن يعمل بالسياسة أن يختار بين أن يكون جمهوريا أو أن يكون ديمقراطيا.. فإن لم يجد لديه القدرة علي التوافق معها فعليه بالأحزاب الصغيرة الأخري، التي لها اهتمامات بموضوعات معينة مثل حزب الخضر، أو بفئات سكانية معينة مثل السود. إن علي من يريد أن يلعب في الدوري العام أن ينضم إلي إحدي فرق الدوري وأن يسعي إليها.. وعلي من يدخل حلبة السياسة ويريد أن يلعب فيها أن يلتزم بقواعد اللعبة السياسية وأن ينضم إلي إحدي الفرق التي تلعب، وأن يتدرب معها، وأن يحمل نفسه علي القيام بالدور الذي يطلبه منه الفريق، وإلا فالأجدي له وللفريق أن يجلس مع الجمهور في مقاعد المتفرجين، فالقاعدة العامة في مجال العمل السياسي هي «تحزب أو الزم بيتك».