المطالبة بمصادرة كتاب "ألف ليلة وليلة" حاليا خطوة لا يمكن وصفها سوي بأنها استعراضية، خاصة أن نسخ الكتاب نفدت فور طرحها بالأسواق، ولا توجد منها نسخة واحدة بالمخازن، كما أكد المسئولون، إذن تلك الدعوي التي رفعها عدد من المحامين، ليست أكثر من محاولة للإرهاب، وتنغيص الحالة الثقافية علي المثقفين، ودفعهم والمبدعين إلي التفكير ألف مرة قبل الشروع في إبداعهم، هي محاولة "نفسية" لاغتيال حرية الإبداع، خاصة إذا عرفنا أن مثل تلك الدعوي تم رفعها عام 1986 ورفضتها محكمة الاستئناف ولم يصادر العمل، في هذا التحقيق يكشف المثقفون المصريون استياءهم من وجود تلك الفئة الظلامية إلي الآن في المجتع، وأكدوا أهمية "ألف ليلة وليلة" كتراث إنساني يجب أن نفتخر بانتمائنا إليه وانتمائه إلينا، أمانة مؤتمر أدباء مصر أصدرت بيانا يرفضون فيه المصادرة والحجر علي الإبداع الأدبي، ولأول مرة منذ سنوات تشهد الساحة الثقافية تحركا ملحوظا من أفرادها، حيث أكد مسئولون بالهيئة العامة للكتاب تضامنهم مع القضية، مؤكدين أن الهيئة كانت ستقوم بنشر الكتاب إذا لم تنشره الهيئة العامة لقصور الثقافة، وقرر اتحاد الكتاب إقامة مؤتمر لمدة يوم واحد يضم عددا من الباحثين والمثقفين، لمناقشة القضية، والحديث عما يمثله الكتاب في الثقافة العربية والعالمية. قال الأديب جمال الغيطاني رئيس تحرير سلسلة "الذخائر"، التي أعادت طبع: "ألف ليلة وليلة" أنها عمل ثقافي الهدف من إعادة طباعته توفير كنز من كنوز الثقافة العربية، وهو العمل العربي الوحيد الذي وصل إلي مرحلة العالمية وتوفيره للناس بسعر رخيص، وقد قمت بطباعتها عام 1986 ضمن سلسلة "الذخائر" أيضا، ولكن جاء حكم الاستئناف لينصف العمل، وأنا متحمل المسئولية كاملة، ودفعت بالعمل إلي المطبعة ونفد يوم صدوره مباشرة، ولا توجد نسخ منه حاليا لا في الأسواق ولا في المخازن، وقد تعهد الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة بإعادة طباعته مرة ثانية، وأعتقد أن هذه الدعوي القضائية هي عملية تحرش منظمة تقوم بها جماعة من المحامين المغمورين طلبا للشهرة من جانب، وإحراجا للحكومة من جانب آخر، وإرهابا للمثقفين من ناحية ثالثة، ويدفعهم شخص محترف رفع قضايا ضد المثقفين والقضية الأساسية هي كيف نتعامل مع التراث؟ هل نحذف منه أم نضيف إليه؟ فإذا حذفنا منه لن يعد تراثا، وهذا ينطبق علي جميع التراث العربي. الأفكار الجامدة ويري الدكتور عبد المنعم تليمة أن هذه الدعوي مرتبطة بما سبق منذ سنوات، عندما صدرت "ألف ليلة وليلة" عن سلسلة "الذخائر" أيضا، وقامت نفس الهوجة وحكمت المحكمة ببطلان الدعوي التي تقدم بها صغار المحامين، والآن يوجد حكم مسبق بعدم المصادرة، وتفسيري لما يحدث هو أن القوي السلفية الجامدة لا تجد عندها أي بضاعة غير هذه الصغائر التي تبعدنا عن القضايا الكبري والتحديات الهائلة التي تواجهها مصر مثل مشكلة مياه النيل، والبطالة والأمية .. إلخ. فوضي قانونية ووصف الدكتور محمد عبد المطلب المطالبة بمصادرة "ألف ليلة وليلة" بالرجوع إلي الخلف، وأسوأ من الرجوع إلي الخلف، وقال: هذا نص صدر منذ مئات السنين، وطبع في مصر وكل بلاد العالم مرات ومرات، ولم يصادره أحد، والفن له لغته الخاصة التي تفارق لغة الناس جميعا، فما نراه خروجا في الأدب ليس خروجا علي الحقيقة، وإنما هو فن وإبداع وجمال، ومن حقنا أن نطلع علي أدب الأجيال السابقة، خاصة أن هذا النص لم يعد ملكا للثقافة العربية، وإنما ملك للثقافة الإنسانية ككل، وأنا مندهش للواقع المتردي الذي نعيشه وأتساءل: هل أصبح من حق أي شخص أن يقيم دعوي قضائية حتي لو لم يكن له صفة قانونية، وأعتقد أن هذه فوضي قانونية لا مثيل لها في الثقافة العربية. إرهاب فكري وتقول الناقدة فريدة النقاش: لقد تعودنا علي مثل هذه الدعاوي التي تصادر فيها "ألف ليلة" فنحن نعيش في جو المصادرة والتكفير وإرهاب المفكرين والعدوان علي التراث وهذا العمل صدر منذ أكثر من ألف عام باعتباره درة الإبداع العربي ثم ندخل في أجواء مظلمة مثل التي نعيشها وهؤلاء المحامون يدعون إلي تنقية كتب التراث وكأن القراء مجموعة من الأطفال الذين لن يستطيعوا استيعاب ما في الكتابات القديمة والجديدة أيضا محاولين فرض وصايتهم علي الأدب ويحددون للناس ماذا يقرأون وما يدعون، وأعتقد أنه تمت إضافة بعض المقاطع الدخيلة علي العمل في فترات الانحطاط، وهي قليلة علي أية حال، وربما تكون هذه الإضافات هي التي دفعت هؤلاء المحامين لملاحقة العمل دون إدراك لقيمة هذا الإنتاج الجماعي، وهو عمل شارك فيه السابقون وخرج في ثوب أدبي رائع أشاد به العالم كله بلا استثناء. وقال الروائي يوسف القعيد: إنه لأمر مؤسف أن ترفع قضية حسبة ضد "ألف ليلة وليلة" وليس من حق أي مواطن مصري تحريك دعوي الحسبة، وبموجب التعديل الذي ادخل علي القانون بالنسبة لدعاوي الحسبة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ومكتب النائب العام وحده هو الجهة المنوط بها تحريك دعاوي الحسبة، وبالتالي ما حدث سوف يخضع لتحقيق دقيق بمعرفة المكتب الفني بمكتب النائب العام، ولكن "ألف ليلة وليلة" عمل من التراث الإنساني لا نملك غير تسليمه إلي الأجيال القادمة مثلما تسلمناه عن الأجيال السابقة وليس من حقنا تهذيبه أو تشذيبه أو الحذف منه، أو الإضافة إليه. وأنا مندهش لمثل هذه الدعاوي في زمن الإنترنت والفضائيات والسماوات المفتوحة، حيث أصبح العالم قرية كونية واحدة، ولم يعد ممكنا فرض الرقابة علي شيء، في الماضي كان ممكنا حجب الإذاعة أو منع دخول الكتب من الخارج، وهذه الأمور أصبحت من رابع المستحيلات في عالم اليوم. الرقابة فكرة قديمة الشاعر عبدالمنعم رمضان يقول: في الماضي كانت عدد النسخ من الكتاب محدودة قبل ظهور الطباعة وكان الأغنياء فقط هم الذين يمتلكون ترف امتلاك الكتاب وكان الكتاب يتداول في دوائر النخب التي لا يخشي منها، وبعد ظهور الطباعة أصبح هناك آلاف النسخ من الكتاب بسعر رخيص ويمكن للبسطاء أن يمتلكوه، وظنت النخبة أن هذه الكتب يمكن أن تثير الغوغاء لأنهم غير محميين بتقاليد ثقافية الآن، وبعد ظهور ثورة المعلومات أصبحت الرقابة فكرة قديمة لا يجب الامتثال لها، لأنك لا تستطيع أن تمنع شيئا، والآن تظهر مجموعة من المحامين يقيمون دعوي بمصادرة التراث، وهذا معناه أن الأمر قد يطولنا نحن -المعاصرين- وهذا خطر، و"ألف ليلة" عمل بمثابة الفريسة الدائمة لكل من تسول له نفسه استخدام سيف الرقابة علي الإبداع، والداعون لمصادرتها يختبرون قدرة السلطة، وفي المرات السابقة فشل هذا الاختبار لأنها أكثر قربا من القاريء العادي القادر علي التعامل معها أكثر من تعامله مع النصوص الصعبة، مما يجعلها أكثر قابلية للتداول فهي اختيار دائم تقوم به الجماعات المحافظة بين فترة وأخري، والآن أصبحت فكرة الرقابة عبثية وهؤلاء المدعون مهتمون بالدعاية لأنفسهم أكثر من عنايتهم بفكرة الرقابة نفسها، إنها وسيلة إعلان حقيقي أكثر من غرض حقيقي للحفاظ علي الحياء العام. وأبدي الروائي محمد جبريل حزنه علي هذا الجو المعاكس لكل تقدم وازدهار، و"ألف ليلة" عمل صدر منذ مئات السنين، ولم يفكر أحد في مصادرته والسابقون كتبوه ونسخوه وتبادلوا قراءته، فهل السابقون علينا أقل تدينا منا؟، وهذه القضايا لابد أن نأخذ منها موقفا حقيقيا وحازما، يرفض الوصاية علي حرية الإبداع وهذا كتاب نال مصداقية العالم كله، ولن تؤثر هذه الدعاوي في قيمته.