أسوأ ما في قضية «ألف ليلة وليلة» المثارة حاليا أنها لاتكشف فقط أننا نقف محلك سر، ولكنها تكشف أننا بكل أسف نعود للخلف، نفس هذه الضجة بحذافيرها شهدها المجتمع عام 1985 أي مند ربع قرن بالتمام والكمال، رفع بعض المحامين والمتضررين قضية لمصادرة طبعة «ألف ليلة وليلة» الصادرة عن مكتبة صبيح المشهورة في الأزهر، وكانت طبعة صبيح هي نفسها طبعة المطبعة البولاقية التي صدرت عام 1832في مصر، وهذه بدورها هي التي أعادت هيئة قصور الثقافة طبعها، في عام 1985 حكمت محكمة أول درجة بمصادرة «ألف ليلة وليلة» ثم جاءت محكمة الاستئناف لتصحح الحكم وتلغي حكم المصادرة وتستند إلي رأي عميد الأدب العربي طه حسين في تقديمه لرسالة تلميذته سهير القلماوي عن «ألف ليلة وليلة». اليوم، وبعد ربع قرن تثار نفس الضجة ويقول المعترضون نفس الكلام ونفس أسانيد الادعاء ليردد المدافعون نفس أسانيد الدفاع وتقريبا نفس الكلام! أليس هذا شيئا مملا؟ ألا يكشف أننا لانتقدم خطوة واحدة للأمام، بل نرجع بجدارة للوراء، الاختلافات هذه المرة أن طالبي المصادرة انتقوا لأنفسهم اسما براقا يجاري موجة أسماء الحركات المنتشرة في المجتمع حاليا وأسموا أنفسهم (محامون بلا قيود) في مجاراة منظمات إنسانية كبيرة ومفيدة للبشرية مثل «أطباء بلا حدود»، و«صحفيون بلا حدود»، وهي منظمات لا تؤمن بالحدود السياسية كعوائق أمام العمل الإنساني، في حين أن جماعة «محامون بلا قيود» هي نفسها أحد القيود علي حرية الرأي والتعبير والنشر، لكنهم قرروا مع أنفسهم أنهم محامون بلا قيود!، والحقيقة أنهم هكذا بالفعل بلا قيود تردعهم عن نشر الجهل وإرهاب الآخرين، بل المطالبة بحبسهم لأنهم مارسوا صميم عملهم الذي أوكله إليهم المجتمع والدولة، وهو نشر الفكر والثقافة في المجتمع. وما دمنا نتحدث عن سيناريو مكرر ومعاد وتكرر كثيرا أو كثيرا جدا في العقود الأخيرة فإننا يمكن أن نتحدث عن السيناريو الذي ستجري أحداثه. أولا: يتخذ رافع الدعوي دائما موقف المهاجم الذي ضبط المثقف أو المؤلف أو المسئول الثقافي متلبسا بالجرم المشهود، وهو في هذه الحالة و(ياللهول) نشر كتاب «ألف ليلة وليلة». ثانيا: يكتفي الكتاب والمثقفون بإبداء رأيهم إذا اتصلت بهم الصحافة ويوجهون حديثهم في اتجاهات عامة مثل رفض المصادرة وصوغ عبارات مثل (لا للعودة إلي الوراء) ولا لعصور الظلام.. إلخ.. دون تحديد من الذي يريد أن يعيدنا لعصور الظلام ولماذا؟ وكيف؟ وهل رافعو هذه الدعاوي دائما أفراد يفعلون ذلك من عند أنفسهم أم أنهم جزء أو نتاج لحركة تيار معين؟ يتجاهل كبار المثقفين عادة كل هذه الأسئلة ويكتفون بالقيام بواجب الشجب والإدانة لأسباب متعددة من أول الإحساس باللاجدوي وقلة الحيلة، إلي الإحساس بالتشفي إلي.. إلي. ثالثا: يظهر المسئول الثقافي عادة وهو يتسلح بنصف شجاعة ونصف حذر، والشجاعة سببها أنه في أساسه مثقف يعرف أن ما يحدث مجرد مهزلة وأن من يناظرونه مجرد مجموعة من الجهلاء أو حسني النية في أفضل الأحوال، أما الحذر فسببه أنه هو نفسه موظف كبير في وزارة الثقافة وأنه في قرارة نفسه لا يأمن تقلبات السياسة وألاعيبها، وربما تأتيه تعليمات بالاعتذار وتفويت الفرصة علي المتربصين، لذلك فإن الحذر واجب وهو يطل علينا من خلال خطاب المسئول جنبا إلي جنب، وعادة ما يكون الحل هو أن يلجأ المسئول إلي الردود الفنية وهي حيلة يلجأ لها الجميع مراعاة لمشاعر رأي عام يميل إلي التطرف مجانا ولوجه الله، والردود الفنية هي بطبيعتها ردود دفاعية من عينة أن: 1- الشاعر أو الكاتب لم يكن يقصد ما ذهب إليه رافعو الدعوي. 2- لو تأملنا النص المعترض عليه سنجد أنه وعلي العكس تماما مما ذهب المعترضون يهدف إلي تدعيم ثوابت الدين والأخلاق وتمجيد القيم المقدسة وتنزيه الذات الإلهية. 3- في حالة «ألف ليلة وليلة» سنجد أن الرد الفني الذي اضطر إليه د.أحمد مجاهد، وهو مثقف كبير وشجاع هو أن عدد الألفاظ التي يعترضون عليها لايتعدي ثلاثين أو أربعين لفظا، وأن التراث مليء بمثل هذه الألفاظ وأن هناك عشرات الكتب في التراث العربي مليئة بمثل هذه الألفاظ وأكثر، وأن «ألف ليلة وليلة» هي عالم من الخيال... إلخ، لكن الحقيقة أن د.مجاهد أو أي مسئول غيره لايمكن أن يكون مقنعا لأن من يناظرونه يتمتعون بسلاح لا يمكن هزيمته هو سلاح الجهل! وهو ما يقودنا للحديث عن المشهد الرابع في السيناريو. -- رابعا: تتحمس وسائل الإعلام لمناقشة الموضوع لاحتوائه علي عناصر الإثارة اللازمة ومراعاة للتوازن الإعلامي وبحثا عن سخونة تناطح الأفكار توجه الدعوة للمبدع أو المثقف لمناظرة رافع الدعوي القضائية أو المطالب بالمصادرة، وهكذا يكتمل (الشو)، تكرر هذا كثيرا في حلقات كان بطلها الأثير شيخ الحسبة يوسف البدري مع تنوع الأطراف المناظرة له بحسب العمل المصادر - جابر عصفور - أحمد حجازي - إقبال بركة.. إلخ. -- - هذه المرة شاهدت تطبيقا عمليا لهذا الجزء من خلال حلقة من البرنامج الشهير علي الهواء الذي يقدمه الأستاذ جمال عنايت علي قناة أوربت، وكانت المناظرة بين د.أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة وبين المحامي رافع الدعوي، وكانت مناظرة محزنة بين الجهل من جهة وبين العلم والثقافة من جهة أخري، وكان المحامي ذو الشكل الكوميدي يفتح فمه كلما حدثه أحمد مجاهد عن أحد الأعمال التراثية الكبيرة التي يمكن أن توجه لها نفس الاتهامات لو نظرنا لها بنفس المنظور الضيق، وكان المحامي الجاهل يرد قائلا أنه غير متخصص! وعندما واجهه مجاهد أستاذ الأدب العربي بقصيدة لشاعر الرسول حسان بن ثابت بها تعبيرات فنية يمكن أن تفسر بأنها خارجة - وفقا للتفسير الجهل - قال إنه غير متخصص، لكنه متأكد أن حسان بن ثابت لا يمكن أن يكتب القصيدة التي لم يقرأها ولا يعرف عنها شيئا من الأساس لأنه غير متخصص! وهنا يقفز السؤال العبثي: لماذا أقحم المحامي نفسه في الموضوع برمته ما دام غير متخصص في الموضوع من الأساس؟! علي أن الجزء الأكثر إثارة للحزن كان ذلك الجزء الذي اشترك فيه الإعلامي الكبير مع الضيف الجاهل في استجواب أحمد مجاهد حول عدد النسخ التي طبعتها الهيئة وتكلفتها.. ورد الرجل بصيغة دفاعية أنه طبع ثلاثة آلاف نسخة بتكلفة ستة جنيهات للنسخة، والحقيقة أنه كان يجب أن يفخر بأن هذا واجبه وساهم في دعم هذا الكتاب المهم ليصل لجمهور القراء لا أن يحاول التهرب من الإجابة عن القيمة الحقيقة للنسخة وقيمة دعم الهيئة لها، فهو ليس متهما ونشر الثقافة والتراث من صميم مهام وظيفته. خامسا: يبقي المشهد الخامس وهو عادة مشهد النهاية، وهو مشهد لا تحكمه أي معايير فنية، فقد يحال البلاغ إلي القضاء أو لا يحال، وفي حالة إحالته للقضاء فإن المفاجآت في انتظار الجميع لأن القانون حمال أوجه أو لأن هناك حرصا علي أن يظل في هذه الجزئية حمال أوجه، فقد يحكم القاضي بمصادرة العمل أو تكفير المبدع أو سحب الجائزة، وقد حدث هذا كثيرا، أو قد يري القاضي ألا وجه لإقامة الدعوي أو لمصادرة العمل، وهذا أيضا تكرر في مرات لا بأس بها، وبسبب مشهد النهاية هذا الذي لا تحكمه قواعد ولا قانون ويتميز موقف الدولة فيه برخاوة لا نظير لها، يتحسس الجميع رءوسهم كلما ظهر مهرج أو متطرف، أو باحث عن شهرة، أو محتسب جديد يطالب بمصادرة عمل ما أو حبس مبدع أو مثقف ما، والغريب أن الجميع يمارسون الصمت بدرجات متفاوتة، رغم أن الواقع يقول أن الدستور المصري يضم مواد متعددة تنص علي حرية الفكر والعقيدة وكذلك علي حرية الرأي والتعبير، وأن مواثيق حقوق الإنسان والأعراف العالمية تحمي حرية النشر والفكر والتعبير، والدولة لسبب ما عدلت قانون الحسبة بعد قضية نصر حامد أبوزيد لكنها لم تلغها ولم تهتم بتنقية ترسانة القوانين من الثغرات التي يمكن أن يلجأ إليها حماة الجهل وأعداء الخيال، والمشرع حتي الآن لم يهتم بتجريم الذين يقومون بإرهاب الآخرين عن طريق الدعاوي القضائية مع أن بلاغاً مثل المقدم ضد ناشري «ألف ليلة» هو قمة الإرهاب الفكري والفعلي وإلا ما معني أن يجد مثقفون وموظفون شرفاء أنفسهم فجأة إزاء من يطالب بحبسهم عامين لأنهم مارسوا مهام وظائفهم وأدوارهم الموكولة إليهم من قبل الدولة والمجتمع، لماذا لا تجرم الدولة هذا الإرهاب للآخرين؟! الإجابة تكمن في الرخاوة والميوعة التي تتعامل بها الدولة مع هذا الملف منذ سنوات طويلة فهي تريد للمثقفين والمبدعين أن يبدعوا ويعملوا بشرط ألا (يزودوها)! ولا تري مانعا أن يمارس المتحدثون باسم الدين والأخلاق نشاطهم بشرط ألا ينازعوها سلطتها وهي رخاوة لا تليق بدولة في حجم مصر ولا تليق بدولة تتطلع إلي المستقبل لأننا إذا كنا نريد المستقبل فلا يمكن أن نوازن بين الماضي والمستقبل ولا بين الجهل والتنوير ولا بين الكبت والحرية، الدولة التي تريد المستقبل ينبغي أن تكون لها انحيازات واضحة لا تقبل اللبس ولا القسمة علي اثنين. -- وأخيراً: ليس من قبيل الفلسفة القول بأن العداء ل «ألف ليلة وليلة» هو عداء للخيال بمعناه القريب والبعيد أيضا حيث تعني «ألف ليلة وليلة» القدرة علي الخيال والارتجال والانطلاق لعوالم غير محدودة، «ألف ليلة وليلة» التي ظهرت في صورتها الحالية في نفس وقت انهيار الدولة المملوكية تقريبا هي الشرق القديم، الشرق المليء بالمدن والبشر والحكايات والحسية، وهو شرق صادم لخيال بعض السذج والفاشيين الجدد الذين يتخيلون أن الألف وأربعمائة عام الماضية من حياة المسلمين كانت بيضاء من غير سوء، ولم يكن فيها سوي التدين علي النمط الصحراوي، وهو تدين عديم الخيال يرشح الناس لحياة يرتدي فيها الجميع زيا واحدا يمارسون سلوكا واحدا خاليا من أي خيال، لذلك ربما لايستسيغ هؤلاء قصصا خيالية رائعة تدور أحداثها ويعيش أبطالها ومؤلفوها في حواضر مثل بغداد ودمشق والقاهرة ولا يظهر فيها أي أثر لفقر الخيال أو ثقافة الصحراء، «ألف ليلة وليلة» هي: (السندباد البحري، ومعروف الإسكافي، وعلي بابا، وشهريار وشهرزاد) وهي أيضا أشعار طاهر أبوفاشا، وصوت زوزو نبيل وعبدالرحيم الزرقاني وفوازير شريهان وآلاف من حلقات الكارتون، وهذه كلها أشياء جميلة بل جميلة للغاية فلماذا لم ير المحامون بلا قيود في «ألف ليلة» سوي القبح هل لأنها قبيحة بالفعل أم لأن القبح يسكن عقولهم وعيونهم هم، ويبقي سؤال أخير: إذا كان الاعتراض علي أربعين أو ثلاثين لفظا صريحا في «ألف ليلة وليلة» التي لم تطبع منها طبعات جديدة منذ 1985- باستثناء الثلاثة آلاف نسخة التي أثارت الضجة - إذا كان الاعتراض أن هذه الألفاظ ستفسد النشء فما هو سر انتشار هذا الكم من الألفاظ القبيحة والخارجة والفجة في خطاب المصريين عموما والشباب المصري خصوصا، وما سر تواكب هذا الانتشار مع مظاهر التدين الشكلي والقنوات السلفية، والنقاب،، إلخ.. يبدو أن «ألف ليلة» هي السبب أو أن (غياب) «ألف ليلة» هو السبب!