في الوقت الذي وافقت فيه السلطة الفلسطينية علي المقترح الأمريكي الخاص بإجراء مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل للنظر في إمكانية تحقيق تقدم ملموس في تسوية قضايا الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية وفي مقدمتها قضية الحدود، وحظيت هذه الموافقة بمساندة لجنة متابعة مبادرة السلام العربية، عاد شبح الاستيطان ليلقي بظله علي مجرد احتمال البدء في هذه المفاوضات، والتي بدا وكأن هناك إجماعًا تامًا علي عدم الثقة في إمكانية نجاحها في تحقيق الاختراق المطلوب في جدار الجمود الذي فرض نفسه منذ العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة نهاية عام 2008، وفي محاولة لفهم هذه التطورات وخفاياها والوصول إلي تصور واضح لعلاقتها الحالية وانعكاساتها المستقبلية علي القضية الفلسطينية ومحيطها العربي والإقليمي قد يكون من المفيد التركيز علي النقاط التالية: 1- أن أسلوب المفاوضات غير المباشرة يتم اللجوء إليه عادة بين أطراف لا تعترف ببعضها البعض أو لا تثق في إمكانية توصلها إلي تسوية خلافاتها علي طاولة مفاوضات وجها لوجه، وفي مثل تلك الظروف يتم اللجوء إلي طرف ثالث لتسهيل الاتصالات ونقل الأفكار وبلورة نقاط للتسوية، ولقد سبق اللجوء إلي هذا الأسلوب العديد من المرات في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، وكانت أبرز محطاته المفاوضات غير المباشرة التي باشرها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر للتوصل إلي فض الاشتباك علي الجبهة السورية عام 1974، حيث رفضت دمشق آنذاك أن يجلس ممثلوها -حتي إن كانوا عسكريين- إلي طاولة المفاوضات مع نظرائهم الإسرائيليين للتفاوض علي قضايا ذات طابع عسكري ميداني بحت لما يحمله ذلك في طياته من شبهة الاعتراف بالخصم. 2- يعتبر أسلوب المفاوضات غير المباشرة أكثر الأساليب تناغما مع نصوص مبادرة السلام العربية التي قدمت تصورا شاملا يستند إلي فكرة الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة في يونيو عام 1967، مقابل التطبيع، وللوصول إلي تحقيق مثل هذه النتيجة كان لابد من وجود آلية تسمح بالانتقال من وضعية الصراع إلي وضعية السلام، وتسمح بعودة الأرض وإحلال مناخ السلام، وبالنظر إلي أن التطبيع مثل المقابل الذي سيقدمه الطرف العربي والفلسطيني، فإن المفاوضات غير المباشرة شكلت في سياق الصراع الأداة المثلي للوصول إلي تحقيق هذه المعادلة والمحافظة علي عناصر القوة في أيدي الأطراف العربية المعنية بشكل مباشر بملفات الأرض الواقعة تحت الاحتلال. 3- إن الانتقال إلي فكرة المفاوضات غير المباشرة، برعاية أمريكية، بعد مرحلة المفاوضات المباشرة واللقاءات المتعاقبة علي مستوي القيادتين خلال عقد مضي، يمثل تراجعا واضحا وخطيرا في مسار العلاقات بين طرفي الصراع، فإذا كان من الطبيعي أن يتم الانتقال من المستوي الأدني (المفاوضات غير المباشرة) إلي المستوي الأعلي (المفاوضات المباشرة) كنتيجة منطقية للتطور الذي يتم تحقيقه، فإنه من غير المنطقي السير في الاتجاه العكسي، والذي يعني بوضوح انسداد سبل التوصل إلي تسوية من جانب، وتخويل طرف ثالث مهمة بذل الجهود اللازمة لجسر الهوة بين مواقف الطرفين من جانب آخر، الأمر الذي يطرح العديد من علامات الاستفهام حول مدي إمكانية نجاح الطرف الخارجي في تحقيق ما فشل في الوصول إليه المعنيون بشكل مباشر، خاصة إذا ما تعلق الأمر بطرف تبدو علي توجهاته مظاهر الانحياز لطرف ضد طرف آخر، ولا يتواني الطرف الحليف في إضعاف قدراته وتحجيم قدرته علي التحرك. 4- استنادا إلي هذا المنطق يمكن النظر إلي القرار الفلسطيني، المدعوم من قبل لجنة متابعة تنفيذ مبادرة السلام العربية، علي أنه مناورة دبلوماسية تهدف أساسا إلي دفع إدارة الرئيس باراك أوباما إلي اتخاذ مواقف حاسمة تجاه قضايا الصراع الجوهرية خلال فترة زمنية قصيرة تم تحديدها من قبل الطرف العربي بأربعة أشهر، كمقدمة لنقل المعركة الدبلوماسية إلي مجلس الأمن الدولي في ظل ظروف يمكن فيها للطرف الفلسطيني والعربي أن يضمن "تحييد" حق النقض الأمريكي علي القرارات التي يسعي لاستصدارها من المجلس لإلزام إسرائيل بإعادة الحقوق العربية التي أقرتها المنظمة الدولية عبر العديد من القرارات، وعلي رأسها ما يتصل بالقدسالشرقية التي لم تعترف المنظمة بقرار إسرائيل ضمها وتوحيدها وإعلانها "عاصمة أبدية لها". 5- وفي المقابل، يظل تفسير آخر قائما مفاده أن اللجوء إلي أسلوب المفاوضات غير المباشرة مثل المخرج الوحيد المتاح لحفظ ماء وجه السلطة الفلسطينية والتي أكدت مرارا عدم قبولها العودة إلي المفاوضات في ظل الاستيطان، ووفقا لهذه المقولة، تسربت الأخبار عن تحركات أمريكية مكثفة في اتجاه العواصم العربية طالبت بدعم هذا الخيار، لاقت استجابة عربية في شكل البيان الذي صدر عن لجنة متابعة تنفيذ مبادرة السلام العربية، ومع التسليم بإمكانية صحة هذا التفسير، فإن وضع اللجنة لسقف زمني لهذا الخيار مثل إضافة عربية أعادت تشكيل المقترب الأمريكي وتوظيفه كمدخل لحملة دبلوماسية وقانونية يتم الإعداد لها، تكون أحد عناصرها وأركانها المرونة العربية والتماشي مع الجهود الأمريكية للتوصل إلي إحلال السلام والتي يقابلها تعنت إسرائيل وتحديها للدور الأمريكي علي النحو الذي تبلور بشكل واضح في إعلان عن بناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة في القدسالشرقية والضفة الغربية بالتزامن مع جولة نائب الرئيس الأمريكي في المنطقة، وفور انتهاء السيناتور ميتشل من زيارته التي هدفت إلي تمهيد المسرح السياسي لإطلاق المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين. 6- أيا كان التفسير الذي يمكن الأخذ به لتبرير التوجه الفلسطيني للعودة إلي المفاوضات وإن كانت بطريقة غير مباشرة، فإنه من الثابت أن الطرف الآخر المعني بالقضية، كانت له أيضا حساباته الخاصة، والتي تتضمن من بين أشياء أخري: كسب الوقت، وإعطاء الانطباع بوجود تحرك ما علي جبهة الجهود الدبلوماسية، والتقليل من عزلة إسرائيل علي الساحة الدولية خاصة في ظل تفاعلات "ملف المبحوح"، القائد الميداني المنتمي إلي حركة حماس والملاحق إسرائيليا علي مدار عقود، والذي تم تصفيته في إمارة دبي في عملية تعددت فيها الدلائل التي تكشف عنها السلطات الأمنية هناك تباعا، لتدين جهاز "الموساد" باعتباره الجهة التي خططت ونفذت العملية بضوء أخضر من رئيس الوزراء الإسرائيلي، وما تبع ذلك من توتر في العلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول الأوروبية التي استخدم منفذو العملية جوازات سفر خاصة بها، لتمتد التفاعلات إلي الأراضي الأمريكية التي قادت التحقيقات إلي بعض بنوكها التي صدرت عنها بطاقات ائتمانية وظفت في الترتيب وتمويل عملية التنفيذ. 7- وفي هذا السياق، سعت إسرائيل إلي تحقيق أكبر قدر ممكن من الفائدة من القرار الفلسطيني- العربي بالموافقة علي أسلوب المفاوضات غير المباشرة، من خلال فرض موقفها الرافض للتنازل عن أي جزء من القدس، وهو ما فسر القرار الأخير ببناء آلاف الوحدات السكنية بها باعتبارها خارج نطاق قرار التجميد الجزئي للنشاط الاستيطاني من جانب، وكونها مدينة إسرائيلية شأنها في ذلك شأن أي مدينة أخري في البلاد. ولعل كل ما سبق يؤكد ليس فقط علي خطورة الموقف، ولكن أيضا علي أهمية التحرك المتناغم والمتجانس للتعامل مع هذا الملف عشية اجتماع قمة عربي وشيك يقع علي المشاركين فيها مسئولية اتخاذ القرارات المصيرية.