في منتصف شهر نوفمبر 2009، وبالتوازي مع الذكري الحادية والعشرين لإعلان قيام الدولة الفلسطينية في الجزائر عام 1988، صرح الرئيس محمود عباس أن "طريق المفاوضات المسدود مع إسرائيل لم يترك أمامه خيارا سوي التقدم لمجلس الأمن بطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة" ووفقا لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية فإن تلك الدولة تقوم علي حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، وقد جاء هذا التصريح كتأكيد فلسطيني علي أعلي المستويات للتوجهات التي برزت علي السطح في هذا الخصوص والمساعي التي تم بذلها تجاه مراكز صنع القرار في المجتمع الدولي لحشد التأييد للتحرك الفلسطيني في هذا الاتجاه. ولعل هذا الخيار والأسلوب المقترح للوصول إلي تحقيقه يدفعنا إلي بلورة عدد من الملاحظات الرئيسية: أولاً: مع انهيار خيار التفاوض، عادت القضية الفلسطينية إلي مربعها الأول، لتصبح قضية شعب تحت الاحتلال انخرط في عملية تفاوض للحصول علي استقلاله، ليكتشف بعد مرور ثمانية عشر عاما أن المفاوضات لم تعد وسيلة لتحقيق الهدف، وإنما غاية في حد ذاتها يسعي من خلالها المُحتل إلي تكريس أمر واقع يفرغ خيار الدولة الفلسطينية المستقلة من مضمونه سواء من حيث الامتداد الجغرافي أو السيادة أو العاصمة، علي الرغم من أن جميع هذه النقاط كان من المفترض أن تكون مجال التفاوض الذي حددت خطوطه العريضة قرارات صادرة عن منظمة الأممالمتحدة، ومبادرات دولية أبرزها خطة خارطة الطريق التي تبناها مجلس الأمن الدولي ثانياً: إن خيار المفاوضات، الذي سبق أن رفضته حركة المقاومة الفلسطينية "حماس" وغيرها من الفصائل الفلسطينية، قد أضحي مع مرور الوقت موضع تشكيك متكرر من قبل قيادات داخل حركة "فتح" ذاتها في ضوء الخبرة المُعاشة منذ توقيع اتفاقيات أوسلو لعام 1993، فتحت عباءة المفاوضات مضت إسرائيل في سياساتها الاستيطانية في الضفة الغربية، لتفرض أمرا واقعا يمثله ما يقرب من نصف مليون مستوطن، وكتل استيطانية، وجدار يرسم حدودا فعلية علي أرض الواقع، وإن امتنع الساسة الإسرائيليون عن تسميته بذلك. وإذا كانت مطالبة الرئيس باراك أوباما بتجميد الاستيطان قد وفرت، لعدة أشهر، الدعم لموقف السلطة الرافض العودة إلي مائدة التفاوض في ظل الاستيطان، فإن هذا الموقف لم يستمر طويلا تحت وطأة الضغوط الإسرائيلية واليهودية علي الإدارة الأمريكية التي تراجعت عمليا عن هذا الشرط لتشيد بتوجه الحكومة الإسرائيلية "لكبح" الاستيطان، ولتحث السلطة الفلسطينية علي العودة إلي مائدة التفاوض والتركيز علي قضايا التسوية النهائية. وفي هذا السياق، كان من الطبيعي أن تتساءل السلطة عن مدي جدية المواقف الأمريكية وقدرتها علي التأثير علي "الحليف" الإسرائيلي في القضايا الشائكة للتفاوض والتي تتقاطع مع ملف الاستيطان من قبيل العودة إلي حدود يونيو 1967 والتي غيرتها الكتل الاستيطانية وراء الجدار العازل، والقدس التي توارت وراء الجدار العازل، وتسارعت فيها وتيرة التهويد من خلال تسارع وتيرة الاستيطان فيها بالتوازي مع هدم المنازل الفلسطينية بحجة بنائها بدون تراخيص ترفض سلطات الاحتلال عادة منحها لطالبيها. ثالثاً: من حيث الواقع، يعني التوجه إلي مجلس الأمن ومطالبته بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدسالشرقية، العودة مجددا إلي خيار التسوية المفروضة من الخارج (الأممالمتحدة)، ألم يوفر هذا الخيار الأساس لإعلان قيام دولة إسرائيل في الخامس عشر من مايو 1948 (عبر القرار رقم 181 الصادر في 29 نوفمبر 1947)؟ ومن جانب آخر، فإن مثل هذا التوجه يحوي في جوهره مسعي مباشرا لتحديد مضمون القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في أعقاب حرب يونيو عام 1967، والذي تحدث عن انسحاب إسرائيل من "الأراضي" التي احتلتها خلال الحرب، مع توفير حدود آمنة ومعترف بها لها. وبعبارة أخري، يمكن القول أن التوجه الفلسطيني الجديد هو مسعي لتجاوز خيار المفاوضات (الذي ثبت فشله)،ولاستثمار للموقف الإسرائيلي المتعنت (تسوية الأمر الواقع من خلال تكثيف عمليات الاستيطان)، ولتحميل المجتمع الدولي مسئولياته في تسوية الصراع الذي فشل أطرافه في التوصل إليها بالطرق السلمية المختلفة (الوساطة، والتفاوض، والتحكيم...). رابعاً: يكتسب توقيت المقترب الفلسطيني الهادف إلي نقل القضية إلي مجلس الأمن، والذي أيدتها فيه لجنة متابعة مبادرة السلام العربية، أهمية كبيرة بالنسبة للحركة الوطنية الفلسطينية التي عانت في السنوات الماضية من انقسام حاد، مثل ملف المفاوضات جوهره، في وقت تفقد فيه مؤسساتها القائمة شرعيتها في ضوء الجدل المستمر حول إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، والذي انتهي بتأجيلها إلي أجل غير مسمي. وعلي صعيد آخر، يأتي هذا التحرك في وقت تعاني فيه إسرائيل من عزلة دولية نتيجة مواقفها الاستفزازية فيما يتصل بملف الاستيطان خاصة في القدسالشرقية. خامساً: كشفت ردود الفعل الصادرة عن مراكز صنع القرار الدولي عن عدم تحمس للتوجه الفلسطيني الجديد، وعلي الرغم من حرص الجميع علي إظهار تأييدهم لفكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة، فإنه تم التأكيد علي أن الطريق الوحيد للوصول إلي تحقيق ذلك هو "المفاوضات". وعلي الجانب الإسرائيلي تعالت الأصوات التي توعدت الفلسطينيين بإجراءات عقابية إذا ما ساروا في اتجاه إعلان دولة فلسطينية من جانب واحد، ليس أقلها ضم الكتل الاستيطانية،والاستيلاء علي أراض جديدة، وتشديد القيود علي حرية التنقل وعدم توريد محصلات الضرائب الفلسطينية إلي السلطة بما يعني خنقها اقتصاديا. وفي ضوء ما تقدم، قد يكون من المفيد أن يعيد الجانب الفلسطيني رسم معالم تحركه علي الساحة الدولية لضمان أكبر قدر من الفعالية، وقد يكون من بين عناصر ذلك: 1- تحرك سريع ومرن وصادق النية لتوسيع المشاركة في منظمة التحرير الفلسطينية، بما يجعلها مظلة حقيقية تتجمع تحت سقفها جميع الفصائل المؤثرة علي الساحة الفلسطينية بما في ذلك الرافضة لخيار التفاوض، بشكل يتجاوز الحلول المؤقتة، ويعيد القضية إلي أصولها باعتبارها قضية "تحرير" يتم السعي إليه بجميع الوسائل التي أضفت عليها الأممالمتحدة صفة الشرعية، ويعني هذا التحرك توحيد الموقف الفلسطيني بعيدا عن معضلة الانتخابات والصراعات بين الفصائل حول خيارات لم تعد مطروحة علي الطاولة. 2- تركيز الجهود علي ترجمة المواقف الدولية المتناثرة والرافضة لاستمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي خاصة في القدس، إلي موقف دولي واضح من خلال قرار صادر عن مجلس الأمن وفقا للفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية يربط بين عدم شرعية الاستيطان من جانب، ووضعية الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس، والتي تم الاستيلاء عليها عن طريق الحرب عام 1967 (ديباجة القرار 242). 3- تنسيق التحرك علي المستوي الدولي بين كل من منظمة التحرير الفلسطينية في شكلها الجديد (كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني) وجامعة الدول العربية (باعتبارها جهة المتابعة لمبادرة السلام) لتركيز الضوء علي التصرفات الإسرائيلية خاصة في مجال الاستيطان وانعكاساته المباشرة علي ملفات التسوية النهائية، وما يحمله ذلك من مخاطر إقليمية، لا تحمد عقباها، في ظل تلاشي خيار التفاوض نتيجة للتعنت الإسرائيلي.