اتفاقية لشبونة لدول الاتحاد الأوروبي ومجموعة الاثنين (الولاياتالمتحدة والصين)، هي أحد افرازات العولمة وآلياتها في الاندماج والشراكة بين الدول، التي سيتشكل بموجبها النظام العالمي الجديد، وهي ليست خاصة بأوروبا أو الولاياتالمتحدة والصين فقط، وإنما ستطول الدول جميعاً في عصر يتعولم باطراد، ففي آسيا توجد منظمة آسيان التي تضم مجموعة من الدول تعمل بشكل مؤسسي شبيه بعمل دول الاتحاد الأوروبي، الشيء نفسه في اتحاد دول أمريكا الجنوبية وغيرها، مما يسهل عمل الحكومة العالمية المقبلة، ويساعد علي مجابهة التحديات والمشكلات الجديدة. النظام السياسي الدولي الراهن هو نظام غير مكتمل، لكنه في حالة اختمار وجيشان في المهاد التاريخي للعولمة، وهو يتجه إلي تحقيق حلم الفيلسوف الألماني، إمانويل كانط قبل أكثر من مائتي عام، فقد حلم بنظام عالمي جديد يتجاوز كل القوميات، وبقانون دولي لحل الخلافات التي قد تنشب بين الأمم، وذلك في كتابيه: فلسفة الحق، ومشروع للسلام الدائم بين الأمم. فكرة الحكومة العالمية عند كانط عالجها ببراعة المفكر الاسترالي المعاصر هيدلي بول في كتابه المعنون: المجتمع الفوضوي: دراسة النظام في السياسة العالمية، ويبحث هذا الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن مركز الخليج للأبحاث عام 2006، في ثلاث مسائل أساسية: المسألة الأولي تتعلق بطبيعة النظام (order) في السياسة العالمية. والثانية تتصل بكيفية الحفاظ علي ذلك النظام في نظام (system) الدولة المعاصر. ويتصدي في المسألة الثالثة لاستكشاف الطرق البديلة، الممكنة والمعقولة، المؤدية إلي تحقيق النظام العالمي، وخلافاً لبعض الآراء التي تقول إن نظام الدولة ذات السيادة آخذ في الأفول في عصر العولمة، فإنه يجادل بأن سيادة الدولة ليست عقبة في تحقيق النظام العالمي، بل هي أساسه المكين. لاحظ بول: أن السلطة في المجتمع الدولي أصبحت تنتقل نحو الأعلي وأحيانا نحو الأسفل، فضلا عن أنها أصبحت أفقية وليست فقط رأسية، مع ظهور عدة مستويات من الولاء الشخصي العابر للقوميات والحدود، مما دفعه إلي القول بتشكل قرون وسطي جديدة (علمانية الطابع)، كبديل عصري للنظام السياسي الشامل الذي كان سائدا في الغرب المسيحي في العصور الوسطي، وهو ما يعرف اليوم بمرحلة (ما بعد وسيت فاليا) أو (ما بعد الحداثة السياسية). ويتألف هذا النظام السياسي الجديد من مجموعة من الولايات القضائية المتداخلة وسلطات مجزأة وولاءات متعددة أو أقل من مجموعة من الفيدراليات الديمقراطية، ويصبح في هذا النظام مثلا، من شأن حكومة بريطانيا أن تتقاسم سلطتها مع الإدارات في ويلز، اسكتلندا، يوركشاير، والصين، وروسيا، ومع سلطة أوروبية في بروكسل أو جنيف فضلا عن سلطة عالمية في نيويورك. ووفقا لهذه الرؤية تصبح فكرة وجود (سلطة مركزية واحدة) تقيم في نيويورك من الأفكار العتيقة والبالية، وحسب بول فإن هناك خمس سمات للسياسة العالمية المعاصرة تؤيد نوعا ما هذا السيناريو الذي يتسم بالعودة إلي المستقبل: ظهور التكامل الإقليمي مثل: الاتحاد الأوروبي والآسيان، تآكل مفهوم الدولة القومية، عودة العنف الدولي الخاص، نمو المنظمات العابرة للقوميات والحدود، عالمية حقوق الإنسان، وتمثل هذه السمات البارزة تحديا لنظرية الدولة التقليدية كما ظهرت عام 1648 . فقد أصبحت المشكلات والأزمات والتحديات الجديدة في عالم اليوم تتطلب نظاماً لا مركزياً عالمياً يرتكز علي دوائر أو مستويات أوسع من حدود وقدرات الدولة القومية ذات السيادة، بالنسبة إلي بعض الأمور، وأضيق من هذه الحدود والقدرات في أمور أخري، أو قل أن الدولة أضحت اليوم أصغر كثيراً من أن تقدر علي الأشياء الكبيرة، وأكبر كثيراً من أن تقدر علي الأشياء الصغيرة. قبل عقد من الزمان أكد العالم الاسترالي كورال بيل: أن التحدي الأمريكي في عالم ما بعد الحرب الباردة، هو أن تعترف أمريكا بتفوقها بشرط أن تدير سياستها كما لو كانت تعيش في عالم ملئ بمراكز القوي، ففي مثل هذا العالم ستجد الولاياتالمتحدة شركاء حقيقيين، ليس في تقاسم الأعباء النفسية للقيادة فحسب، بل في صياغة نظام دولي جديد يقوم علي الحرية الديمقراطية الليبرالية.. التي تعتبر نفسها: عنوانا لها، ودستورها: تحسيداً لمبادئها.