دعنى أولا أوضّح ماذا يوحى هذا العنوان إلى ذهنى..؟ إنه يوحى إليّ أولا: بأن أمريكا معنية بمستقبل المدن فى العالم المسلم..؟ وثانيا: أنه مادام قد جاء ذكر أمريكا فى هذا السياق فلا يمكن أن يكون الهدف من هذا التصميم خيرا للمسلمين، بل هو شر مبين...! فما الذى حفزنى للكتابة فى هذا الموضوع...؟ والجواب هو: ثلاثة وقائع بعينها، تبدو كل واحدة منها معزولة فى الظاهر عن الأخرى وبينها فواصل زمنية ملحوظة، ولكنها جميعا تشير فى مغزاها إلى استراتيجية واحدة تجاه العالم المسلم فى المرحلة القادمة: 1- إعفاء " الجنرل ماكرستال" القائد العام الأمريكى السابق لقوات التحالف فى أفغانستان، الذى كان يسعى لإنهاء الصراع سياسيا، وإحلال مجرم حرب عريق فى مكانه هو" الجنرا ل ديفيد باتريوس" الذى صمم خطته الجديدة حسب تصريحه (هو) على أساس استخدام أنواع من العنف لم يسبق لها مثيل...! كما فعل فى العراق... 2- إدعاء تونى بلير فى مذكراته التى صدرت هذا الشهرأنه لم يكن يتصور فى بادئ الأمر أن الإرهاب الإسلامي بهذه الشراسة التى تبدّت له فيما بعد، بل أضاف: أن أفكار هؤلاء الإرهابيين المتشددين تسرى بدرجات متفاوته فى التيار العام للمسلمين العاديين فى العالم[وهذا هوالأهم فى كلامه..!] لماذا..؟ والجواب: لأن فى هذا الادعاء دعوة مبطّنة للعالم الغربيّ أن يتعامل مع كل المسلمين على أساس هذه الفكرة الجهنمية.. فإنك إذا وضعت فئة من البشر فى خانة الشياطين، فليس هناك إلا حل واحد هو الإبادة والاستئصال، أو القمع المؤدى إلى وضع هؤلاء الشياطين فى سلاسل العبودية، كما فعل النبي سليمان مع شياطين عصره.. أما كيف يتم هذا ..؟ فإن الإجابة تكمن فى الواقعة التالية (رقم 3): حيث تفجرت فى الصحافة والإعلام خلال شهر يولية الماضى2010 حقائق مذهلة عن دراسة علمية أجريت فى مدينة الفلوجة العراقية تصور بشاعة الآثار التى ترتبت على استخدام أسلحة ذرية وبيولوجية وكيميائية محرّمة دوليا .. ولكى تتوضح الصورة فى ذهن القارئ حول هذا الموضوع لا بد أن أضيف أيضا واقعتين لهما دلالات تؤكد حقيقة الأهداف الأمريكية الصهيونية تجاه العرب والمسلمين: أولهما دخول أمريكا بثقلها فى عملية تفكيك السودان[ تمهيدا لتفتيته]، فخلْق دولة مشبوهة الهوية فى جنوبه ستكون مركزا لمزيد من التفكيك والتفتيت ، ثم إحكام الحصار على مصر فى خطوة تالية.. لخنقها، حتى يأتى دورها فى التفكيك والتفتيت.. أما الثانية فتتمثل فى الكشف عن خلايا تجسس إسرائيلية فى لبنان ومصر تستهدف المنطقة العربية كلها، والجديد فى الأمر أن شبكة الجاسوسية هذه ليست فقط لجمع معلومات او القيام بعمليات تخريب واغتيال وإشاعة الفوضى فحسب، وإنما أيضا لزرع مؤسسات إعلامية ذات وجه عربي بقصد التحكم فى الرأى العام وتوجيهه بأساليب خفيّة لخدمة المصالح الصهيونية والإمبريالية .. ستقول هذه وسائل معروفة وليس فيها من جديد.. وهذا صحيح.. فنحن نعلم أن هناك أناسا يعملون فى فضائيات وصحف، وهناك كُتّاب مسخرون لخدمة الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، وينالون على وظائفهم أجورا سخية.. ولكن تجنيد أشخاص، وإنشاء صحف ومؤسسات إعلامية، مصمّمة ومموّلة بالكامل من إسرائيل لهذه الأغراض [وعن طريق شبكات التجسّس] هو نقلة نوعية خطيرة، وتحوّل جديد فى وسائل الأعداء لتحقيق أهدافهم..! والآن قد تسأل : ماذا تمثل حكاية الفلوجة فى الخطة الأمريكية لمستقبل المدن الإسلامية..؟ ولماذا الحديث عن مدن وليس عن دول..؟ وإجابتى على السؤال الأخير هى أنه ليس فى الخطة الأمريكية الصهيونية [دولا عربية أو إسلامية] وإنما جيوب صغيرة مبعثرة أشبه بقطاع غزة، والضفة الغربية، يمكن بعد هذا أن يطلق عليها إسم دولة ، أو إمارة فلسطين، كما يمكن أن تسمى دول السودان: بالسودان الشمالى مشتملا على مدينة الخرطوم وما حولها ، وهكذا الحال فى دولة السودان الجنوبى ، ودولة السودان الشرقى .. وتصبح الدول المسلمة مجرد مدن ممتدة فى محيط عدائى تتحكم فيه أمريكا وأسرائيل مباشرة أو بالرموت كنترول...! أما الدولة بمعناها المألوف فستصبح جزءا من التاريخ يحرّم على التلاميذ دراستها أو ذكرها لتمّحى تماما من ذاكرة الأجيال. هذا هو الشكل البارّانيّ لدولة أومدينة المسلمين فى المستقبل وفقا للخطة الأمريكية الصهيونية...! فما هو المحتوى االجوّانى لهذه المدينة.. هذا ما سنعرض له فى حديثنا عن الفلوجة .. ومنه سيتبين لنا أن الفلّوجة هى النموذج الأمثل لما تسعى أمريكا لتحقيقه فى كل بلاد المسلمين، والمأساة الحقيقية تكمن فى أن أمريكا لا تعمل فى فراغ بل يساعدها فى تحقيق خططها أناس من أهل هذه البلاد هم أصحاب السلطة الحاكمة، و أناس هم الأكثر نفوذا فى مجالات السياسة والاقتصاد والتوجيه، وهم المسيطرون على وسائل التعليم والتوجيه الإعلامي.. استطاعوا الهيمنة على مقدرات الشعوب وحرياتها، والتحكم فى كل مايقوّم حياتها وصحتها وبقائها.. بدعم متواصل من العدو الأجنبيّ.. مدينة االفلّوجة العراقية: للحديث عن الفلّوجة وأهميتها فى هذا السياق لا بد أن نبدأ بقصة الهجوم الأمريكي عليها: ففى 28 إبريل سنة 2003 أطلقت قوات الاحتلال الأمريكية النار بطريقة عشوائية على مجموعة من المتظاهرين فى المدينة احتجاجا على تحويل مدرسة أبنائهم إلى قاعدة عسكرية، فقتلت سبعة عشر فردا من المتظاهرين، وبعد يومين تجمّع عدد آخر من الأهالى فى مظاهرة احتجاجا على المعاملة الوحشية لإخوانهم الذين قتلوا، وفى هذه المرة أيضا أطلقت القوات الأمريكية النار عليهم فسقط منهم قتيلان .. فأشعلت هذه التصرفات الهمجية غضبا عارما فى صدور أبناء المدينة .. وهكذا تراكمت المواجهات لتجعل مدينة الفلوجة مركزا للمقاومة السنية ضد الاحتلال الهمجي: ففى 31مارس 2004 اعترضت مجموعة من العراقيين الغاضبين من أقارب القتلى وذويهم قافلة من السيارات الأمريكية تحمل عددا من الجنود المرتزقة التابعين لشركة بلاك ووتر الشهيرة.. أوقفوا القافلة وسحبوا منها أربعة رجال، فأوسعوهم ضربا وركْلا وأشعلوا فيهم النيران ثم علقوا جثثهم على جسر يمر فوق نهر الفرات .. ثارت ثائرة القيادة الأمريكية وأعلنت أنها ستسوى المدينة وسكانها بالأرض.. وصرح أحد الضباط بأنهم سيحولون الفلوجة إلى مجزرة كبيرة.. وتحرك نحوها بضعة آلاف من مشاة البحرية الأمريكية فى هجوم انتقامي على المدينة.. ولكن أبناء المدينة الباسلة تمكنوا من الصمود والمقاومة حتى أفشلوا الحملة الأمريكية، التى صوّرتها كاميرات تليفزيون الجزيرة فشهدها العالم واحتفلت الجماهير العراقية بهذا النصر العظيم.. تدخّل البنتاجون مباشرة فى شهرنوفمبر، فأمر بحشد مزيد من القوات لمحاصرة الفلوجة ودكها بالقنابل، وأعلنت القيادة الأمريكية أن ماتبقى من سكان المدينة هم أعداء يجب القضاء عليهم جميعا.. ولقد حاول بعض المواطنين الخروج من المدينة فرارا من الموت مع نسائهم وأطفالهم ولكن منعتهم قوات الحصار الأمريكي من الخروج وأعادتهم إلى ساحة المجزرة... فى هذه الحملة استخدمت القوات الأمريكية كل ما فى ترسانتها العسكرية من الأسلحة المحرمة دوليا ومنها قنابل الفسفورالأبيض، التى استخدمتها إسرائيل فى الحرب على غزة؛ فهذه المادة الكيماوية المهلكة لها قدرة هائلة على اختراق المواد والملابس حرقا، حتى تصل إلى عظام الضحايا فتحوّل الأجسام البشرية إلى كتل من الفحم.. أما الأهالى الذين لجأوا إلى بيوتهم وأحكموا إغلاق نوافذها فقد أطلقت عليهم القوات الأمريكية ذخائر تمتص الأكسوجين من داخل المبانى ليموتا اختناقًا.. أما الذين تحصنوا داخل المبانى المدعّمة بالأسمنت المسلّح فقد أعدّ لهم الأمريكان قذاف اليورانيوم المنضّب، وهى من أخطر أنواع الأسلحة التى استخدمت فى الفلوجة؛ ذلك لأن هذه القذائف عندما تصطدم بجدران صلبة، تخترقها، وينطلق منها اليورانيوم المشعّ على شكل جزيئات بالغة الدقة، تخترق أجسام البشر لتسرى فى عروقهم وأنسجتهم مجرى الدم، فتستهدف الجينات الوراثيةDNA وتسبب لهم أنواعا مختلفة من السرطانات، والأدهى من هذا أنها تتركز فى الحيوانات المنوية عند الرجال وفى البويضات الأنثوية، ومن ثَمّ ينتج عنها مواليد مصابة بتشوهات خِلْقية بشعة، وترتفع معدلات موت الرّضّع ، والإعاقات البدنية والعقلية عند الأطفال.. وهكذا أضيفت مدينة الفلّوجة العراقية المسلمة السنّية، إلى قائمة المدن التى دمّرتها أمريكا فى حروبها الإمبريالية الحديثة، ولكن على خلاف كل هذه المدن (باستثناء هيروشيما ونجازاكى) تنفرد الفلوجة بخصوصية دامغة للجريمة الأمريكية البربرية، فهذه الجريمة تستمر فى إفراز نتائجها السلبية البشعة فى حياة أجيال بعد أجيال من أبناء هذه المدينة المنكوبة: آلاف من الحالات المرضية المستعصية، وضحايا سرطانات، وتشوّهات خِلْقِية، ومعدّلات عالية من حالات العجز البدنيّّ والعقليّ لا علاج لها.. ويستمر هذا المسلسل آجالاً من الزمن، لا يعلم إلا الله وحده متى تنتهى أو لا تنتهى.. وتلك هى الصورة فى أبعادها البرّانية والجُوَّانِيّة للمدينة الإسلامية فى المستقبل، كما ترسمها الولاياتالمتحدةالأمريكية ... وللقصة بقية قد نعرض لها لاحقًا إذا شاء الله..وبالله التوفيق. [email protected]