ما أسهل ان تختار مفرداتك بعناية ، وان تجعل من تلك المفردات طلقات تصيب الحق والباطل .. هذا غالبا ما يعرف في السياسة بالتغييب.. لكن أغلب من أحب، يطلقون علي تلك المفردات التي تشكل في النهاية شكلا من أشكال الكتابة الصحفية "تلفيق" . والتلفيق لا يقتصر علي الصحافة التي ترص فيها المفردات بعناية لتصيب الهدف في مقتل .. الهدف بالطبع هو القارئ ، ولأنه قارئ فهو حتما يملك عقلا فرز أول ، "مخادع"، ولن يرضي بتلفيق تم "رص " مفرداته بعناية، وهو ما يحدث أيضا في الفن، وربما هذا بالتحديد ما أدهشني في مسلسل "يوسف الصديق" فهو إنتاج إيراني عام 2008 بطولة حسين جعفري، ومصطفي زماني، وكتايون رياحي، والهام حميدي، وجعفر دهقان. هذا العمل يضعك امام تحدي، تماما كبطل المسلسل وصانعيه الشيعة. فالسنة يرفضون التجسيد، وهو موقف معلن لمشيخة الأزهر.. أيضا صدر بيان في سبتمبر من العام الماضي ، من مفتي الجمهورية د. علي جمعة، بالاتفاق مع مجمع البحوث الإسلامية، يحرم عرض ومشاهدة المسلسل، وأكد البيان أن ظهور الأنبياء والعشرة المبشّرين بالجنة من الصحابة، وآل البيت والملائكة حرام شرعا. لكن "ميلودي دراما "استمرت في عرض المسلسل الذي حظي بنسبة مشاهدة غير مسبوقة. كما انه يعاد الأن علي نفس القناة، ليشاهده السنة ، فلماذا مر، وبأي منطق؟ لا شيء مرر هذا العمل سوي جهد صانعيه، والاطمئنان الي ان ما يجري عرضه تحفة فنية يمكن وصفها بالرائعة عن جدارة واستحقاق، لكنها تحفة تهدم ثوابت هزلية مصرية مستقرة، فهي أولا تنسف فكرة العمل الديني الذي يصنع خصيصا لرمضان من كل عام، والذي يسير بثبات علي مدي قد يزيد عن 30 حلقة دون ان يقول شيئا له معني ،هو فقط يحتفي بثوابت دون مناقشة ،ويحرص تماما علي السطحية.. وبمعني آخر، فان "يوسف الصديق" الايراني، نسف تلك "السبوبة" من أساسها . لكن المنطقي قد حدث، ولم تتمكن مافيا "السبابيب" الفنية من حصار العمل أو وقفه ، فقد قامت بعدة محاولات لتهييج الرأي العام من خلال عدة أخبار عن حرمة التجسيد ،وعن الدعاوي القضائية المرفوعة لوقف عرض المسلسل، وفشلت كل تلك المحاولات بالضربة الفنية القاضية ،واستمر عرض حلقات يوسف الصديق، يحميه أكبر نسبة مشاهدة لعمل ديني علي الاطلاق، ودون شكاوي تذكر. في البداية ستدهشك بساطه العمل، ودقته، وستستولي عليك تماما لغته الشاعرية "تعبيرا وبلاغة". ولن تتعجل علي حكمك اذا تذكرت ان المسلسل صنعه شيعة، وعرض ويعاد الأن ليشاهده السنة . المسلسل يستولي عليك تماما .. انت تبحث عن نقيصة، "تفصيله" بعيده عن العقل والمنطق، معجزة لم ترد في القرآن والسنة.. باختصار انت تبحث عن العقل الشيعي الساعي وراء السيطرة علي تاريخك وتراثك، هادم الدين ومفرق الجماعات، لكنك لن تجد الا كل ما هو جميل. لن تجد الا ما ذكره القرآن الكريم عن النبي يوسف، عليه السلام، وان حدث تصرف فهو ليس تحريفا، وانما ضرورات فنية، منها مثلا ما حدث ليوسف عليه السلام في البئر، أو "الجب". ومنها كيف تصرف لينجو من فخ "زليخة" زوجة العزيز.. لكن الأخطر بدأ عندما وصلت أحداث المسلسل الي لحظة وصول قافلة "يوسف" عليه السلام الي أبواب مصر، وكانت الخطورة حقيقية علي رعاة ، ورعية نظام مبارك: انه يحتفي بمصر، يصفها بأنها أعظم وأول حضارات الأرض علي الاطلاق. وأول من صنعت الحكومات والملوك، وأول من عرفت العدل.. كانت الرسالة واضحة بأننا نستحق أفضل بكثير مما نحن فيه، كما كانت أكبر مما يحتمل نظام "هش" أكل نفسه واستهلك جميع الحيل. متعة مشاهدة هذا العمل لا تنتهي الا مع قراءة آخر اسم في تتر الحلقة الأخيرة.. مجرد قراءة هذا الاسم أو ذاك علي تتر آخر يعني وعدا بعمل آخر جيد جدا. وليست مبالغة اذا اعتبرت ان هذا العمل "الثوري" أسهم في اشعال فتيل الثورة ،ولو بالإيحاء ،والتأكيد علي اننا نستحق الأفضل ، وان كانت المصادفة وحدها قادته للعرض قبل 25 يناير بأيام . هذا المسلسل انجازا كبيرا للنظام الايراني ، انجازا يحترم، لكنه لا يبرأ هذا النظام من تزوير الانتخابات، والقسوة المفرطة علي الطلاب المعارضين، كما لا يعفيه من العبث بأمن العراق، واستفزاز العرب، واستغلال قضاياهم منصة اطلاق لعبارات جوفاء، خارج التاريخ، وخارج السياق، عبارات تحمل في طياتها نقابا، وكبتا ورقابة ، واعتداء علي الحريات.