بإبتسامه هادئة وخجل فطري يجيب الفخراني علي كل سؤال، وعلي عكس الكتابة لا يستفيض كثيرا في الكلام، يحاول التركيز ليعبّر عن فكرته في أقل عدد ممكن من الكلمات، لا يجاهد كي يبدو عميقا، بل يأتي العمق من مفردات سهلة ومتداولة، يبدو متسامحا مع نفسه ومع العالم، كراهب زاهد في محراب يدعو العالم إلي نبذ التطاحن والتركيز فقط في "عشق الكتابة"! أبرز نتائج المرحلة التي يعيشها الفخراني الآن مجموعة "قبل أن يعرف البحر اسمه" يهرب فيها من عنف الهامش الذي قدمه من قبل في "فاصل للدهشة" ويحاول أن يقدم تفسيراته للعالم، يُكّون عالمه كقطع الباذل المتناثرة، فيصبح عالمه بحراً ممتداً وسماء صافية وأزرق مراوغاً وخيولاً جامحة وشمساً لا تكف عن منح الهدايا. "لاشيء أجمل من أن تخترع العالم" يكتب الفخراني في افتتاحية المجموعة، ويفسر جملته فيقول إن الفكرة ليست اختراع عالم مواز، لكن كتابة قصص جديدة عن نفس العالم: "أي اختراع جديد مكون من عدة أشياء ربما تكون بعيدة وغير مرتبطة ببعضها، وإعادة التجميع أحيانا ما تُخرج شيئاً جديداً تماماً". يستند الفخراني إلي فرضية أساسية وهي أن القصة الأصلية لنشأة الإشياء غير مؤكدة، ومن هنا تأتي الفرصة لإعادة الاختراع والتركيب واللعب. يكتب الفخراني في قصة أزرق:"فتحت السماء الزجاجة بلهفة، فسكب "أزرق" نفسه عليها بسرعة، حتي أنها فوجئت به وبالإحساس الذي ضرب قلبها، فانشق جسدها عن ضوء خاطف وصدر عنها صوت قوي، وكان هذا أول ظهور لما عرف بعد قليل باسم "الرعد" و"البرق" واعتادت السماء فيما بعد أن تطلقهما عندما تنفعل".. كتابة كتلك يعجز كاتبها نفسه عن تصنيفها، يقول:"هي ليست فانتازيا. كنت حريصا علي ذلك، لكن بصراحة لا أستطيع تصنيفها، يمكن أن نقول فيها شيء من كل شيء". يؤمن الفخراني بأن الحكاية ستظلّ هي البطل، لكن بشروط أهمها أن تكون هناك رؤية للعالم "لو رواية عظيمة دون رؤية للعالم ستكون مجرد كتاب فلسفي، وإذا طرحت أفكارا عظيمة في رواية فمن حق أي شخص أن يقول "طظ" لهذه الأفكار، لأن طرحها في إطار الرواية يقبل ذلك..الرواية في رأيي حكاية ولغة ورؤية للعالم". ألا تعتقد أن فكرة كهذه ربما تكون قد قُدّمت من قبل؟ سألته وأجاب بسرعة: لا لم أقرأ شيئا بنفس الفكرة ولو قرأت ما كنت كتبت هذه المجموعة، ربما يكون شخص ما قد كتب لكني لم أقرأ. هذه المجموعة كتبتها أثناء كتابة رواية..توقفت وكتبت المجموعة ثم عدت مرة أخري للرواية وكلاهما بنفس الروح، وإذا أُجيزت التسمية هنا فأنا أسميها مرحلة إعادة اختراع العالم". وتأكيدا علي الحالة التي تتلبسه الآن يكتب رواية وكتاباً يدوران في الأجواء نفسها: "أعتقد فعلا أن حالة ما تتلبسني وتشغلني، أنا متأثر بها وأحاول أن أصل لنهايتها حتي لا أعود إليها مرة أخري، فهذه رؤيتي الشخصية للعالم في هذا التوقيت بالتحديد". قلت إن المجموعة ستظهر في هذه الحالة وكأنك كنت تمتحن قدرتك علي كتابة من هذا النوع وأيضا تمتحن تقبل القارئ للنوع نفسه، كما أنك قد تقع في فخ التكرار والتشابه، وأجاب بأنه لا يخاف التكرار: "كتبت مجموعة ثم رواية عن الهامش ولم يتحدث أحد عن التشابه، لأنهما كانتا مختلفتيْن في اللغة والتفاصيل وكل شيء. وهذا ما سيحدث في الرواية الجديدة" بعد فترة صمت يعود للتفسير: "الألعاب التي يمكن استخدامها في موضوع كهذا كانت أكبر من أن أسيطر عليها في المجموعة لكن في الرواية فالعالم أوسع ومساحة اللعب أكبر، وكنت أشعر أنني ممتلئ بالمجموعة لذلك لم أنتظر، أما الرواية فانا أعمل عليها بصبر لأنها ستكون من الحجم الكبير، والرواية الكبيرة التي أنتظرها"! يتعجب الفخراني من تعجّبي، ومن سؤالي عن انشغاله بحجم الرواية: " طبعا. أنا مؤمن بأن الرواية الكبيرة من الأشياء التي يجب أن ينشغل بها أي كاتب، بل وأن يسعي وراءها، ولا يوجد ما يُخجل في هذا، كلنا نعرف أن الرواية لا تقاس بالمتر هذه مقولات يعرفها طفل صغير، لكن يجب أن نتذكر أيضا أن كل الروايات العظيمة في التاريخ كانت روايات كبيرة أو معظمها علي الأقل". لكنه يحاول تقنين الأمر أو وضع شروط أهمها إيمان الكاتب بأنه سيحاسب علي ما كتبه: "وإذا ملّ القارئ فلن يكمل الرواية، ولا يوجد ما يجبره علي الرجوع لرواية مملة، وسيخسر كثيرا من يلجأ للمط والتطويل من أجل الحصول علي رواية كبيرة". الكتابة أسهل المراحل عند الفخراني " يمكن أن أضحي بما كتبته لو طرأت علي ذهني فكرة جديدة، وتكفيني متعة كتابة العمل، لأنني عندما أعمل علي كتاب أبحث وأدوّن ملاحظات وأفكاراً، والكتابة تكون المرحلة الأسرع والأسهل في الوقت نفسه، فأنا لا أجلس لكتابة أي عمل إلا بعد اكتمال الفكرة والإلمام بكل تفاصيلها..لذلك أعتبر مرحلة الكتابة متعة في حد ذاتها..متعة التخلص من هذا الحمل الثقيل الذي سيطر علي فترة الإعداد". يؤمن صاحب "فاصل للدهشة" بأن كل عمل يحقق النجاح الذي يتماشي مع العمل نفسه، مثلا يري أن المجموعة نجحت لكن: "نجاح يشبهها أو يشبه عالمها" فالرواية كانت صاخبة لهذا كان نجاحها يشبهها، أما المجموعة فهادئة، يضيف الفخراني:"كما أن هناك جانباً مهماً لا يمكن إغفاله فنحن لا تزال لدينا ثقافة الرواية.. الرواية هي التي تسيطر حتي الآن، كما أن المجموعة لم تأخذ وقتها بعد". النجاح الذي حققته الرواية الأولي كان مغريا لكتابة المزيد حول هذا العالم-المهمشين- وبلغة وحبكة ومجموعة حكايات كان يستطيع الفخراني تثبيت النجاح لكنه رفض، أقدم ثم تراجع: "كتبت بالفعل مجموعة بعد الرواية لكنني لم أنشرها ولن أفعل، أناأذهب دائما إلي ما أحب" لكن الحب لم يكن فقط دافعه للرفض؛ كانت لديه أسباب أخري: "وقتها كنت سأفقد نجاحي الشخصي، وربما احترامي لنفسي أيضاً". لكن كيف يقيس الفخراني ذلك النجاح الشخصي؟ هل بأرقام المبيعات أم بآراء النقاد أم بالجوائز، يقول إن الثلاثة لا تعبّر التعبير الحقيقي عن النجاح: "الأول شيء غير مضمون في مصر، حتي لو طبعت طبعة ثانية وثالثة فلن تعرف الحقيقة أبداً" أما النقد فالتوقف عنده مضيعة للوقت: "لو تأكدت من نجاح العمل لا أشغل بالي سوي بالكتاب القادم، لا أريد ما يشغلني عما أطمح له، لا أريد التوقف عند شيء.. أتمني طبعا أن يحدث اهتمام، لكن التوقف عند هذه الفكرة مضيعة للوقت". الثالثة لم تخرج أيضا من إطار مضيعة الوقت رغم أنها بطبيعة الحال داخل الكتابة: "لا أنكر أنها شيء مهم بل ومهم جدا، لكنها بشكل ما تشغل عن الكتابة أيضا والانشغال بها يؤخر" فأي جائزة من وجهة نظره عبارة عن لجنة تحكيم، لو تغيرت ستتغير النتائج، لأن الفن في النهاية ذوق شخصي، والفخراني ليس فقط لا ينكر ذلك بل يطالب به أيضا: "إذا لم يتحكم في الجوائز الفنية الذوق الشخصي فلن تكون عادلة، لأن المُحكم وقتها سيختار مالا يرضيه فنيا وهذا ضد مبدأ الجائزة.. المحكم في النهاية بشر وليس قالب طوب". ما يرضي الفخراني في النهاية هو الكتابة ذاتها وليس أي شيء آخر:"كما إن فكرة الأول والأفضل غير منطقية في الفن، ومن يفكر في هذا أتصور أن الكتابة لا تحتاجه" النجاح الحقيقي الذي يؤمن به الفخراني هو إحساسه الشخصي مع بعض الدعم من الأصدقاء: "يهمني نجاحي الشخصي مع نفسي وليس النجاح مع القارئ، وإذا أراد القارئ أن يقرأ رواية أخري عن الهامش فليبحث عن ذلك في مكان آخر، لكني لن أعود لما كتبت عنه". يؤمن الفخراني بأنّ هناك دائما سبب شخصي للكتابة ولا يتوقف الكاتب إلا بزوال هذا السبب، كما أنه يؤمن بأن الكتابة تؤثر بقدر فلا يمكن من وجهة نظرة أن تكون الكتابة مجرد كلمات في الفراغ: "صحيح أنها لن تصنع إنساناً جديدًا لكنها تؤثر، لذلك لا بد أن تحمل الكتابة فكرة، وفكرة جيدة وجديدة ومبهرة واللغة هي وسيلة تحقيق ذلك، ومن لا يملك ذلك فالأفضل أن يبحث عن شيء آخر غير كتابة الروايات" لذلك فهو لا يؤمن بالمقولات التي تعتقد بأن هناك جيلا جديدا يقدم كتابة جديدة: "فكرة الجيل ليس لها أي قيمة عندي" فالكتابة بالنسبة له: "فعل فردي تماما" وحتي إذا كانت هناك حقا كتابة جديدة فلا يهمه ولا يعنيه أن يكون ذلك ضمن مجموعة: "يسعدني أحيانا لأن منهم أصدقائي لكني مؤمن بأن الكتابة الحقيقية لا علاقة لها بالأجيال، والكتابة نفسها تهدم هذه الفكرة، لأن الذي يبقي دائما هو الاسم لا الجيل".