ميدان التحرير كان الشاهد الأكبر علي أن الأمم تتجدد وتولد مرة بعد أخري مهما طال الليل ونخر الفساد في النفوس. والميدان كان شاهدا أيضا علي أن كلمة الحق - مهما كانت خافتة ومحاصرة - لا تضيع، وأن الفن الجيد يظل حيا علي مر السنين. وسط آلاف الشباب الصغار سنا المحتشدين في الميدان كان يدهشني سماع صوت عبد الحليم حافظ ينطلق من مكبرات الصوت ومن الحناجر في أغانيه الوطنية مثل "صورة" و"بالأحضان" و"أموت أعيش" بجانب أغاني الشيخ إمام وغيرها من الأغاني التي حفرت طريقها إلي الوعي الجمعي للمصريين جيلا بعد جيل. بالأمس حلت الذكري الثانية والثمانين لميلاد عبد الحليم وسط احتفالات في مسقط رأسه بالشرقية واحياء لذكراه علي الإنترنت حتي أن موقع "جوجل" الشهير وضع صورته علي صفحته في مصر طوال الأيام الماضية باعتبارها الحدث الأهم الآن. "مطرب الثورة" هو اللقب الذي اقترن باسم عبد الحليم أكثر من أي مطرب آخر، ورغم أن الكثيريين يختلفون حول المرحلة والنظام السياسي الذي كان يغني لهما، لكن أحدا لا يختلف حول صدق هذه الأغاني وتأثيرها علي الملايين في عهده والعهود التالية. وإذا كان عبد الحليم هو المطرب والممثل الأكثر شعبية في تاريخ الفن المصري، فإن ذكري ميلاده ترتبط بذكري أخري حزينة الطابع وهي موت سعاد حسني، الممثلة والمطربة الأكثر شعبية، والتي ارتبطت سيرتها بسيرة عبد الحليم بقصة حب عاصفة ومأساوية وأصابت كليهما بجرح دامي دائم النزيف، كما ارتبط الاثنان باسم ثالث لفنان محبوب شديد الشعبية هو أحمد زكي. ومن الغريب أن سعاد حسني ماتت يوم ميلاد عبد الحليم بينما توفي أحمد زكي في 27 مارس قبل أيام من ذكري وفاة عبد الحليم! الخيال الشعبي ربط بين الثلاثة ونسج العديد من الأساطير حولهم. والأسطورة في أحد تعريفاتها هي القصص التي يصدقها ويتداولها الناس دون أن يكون هناك دليل ملموس علي حدوثها. يقال مثلا إن عبدالحليم تزوج من سعاد رغم أن أحدا لم يظهر لنا ورقة واحدة توثق هذا الزواج. ويقال إن سعاد انتحرت في ذكري ميلاد عبدالحليم عن عمد رغم أن نفس هؤلاء تقريبا يؤكدون أنها ماتت مقتولة في ظروف غامضة وراءها قصص مخابراتية ليس هناك دليل واحد علي صحتها. ومن العجيب أن هذه القصص العاطفية والبوليسية لا تخبو حرارتها بمرور الأعوام بل تزيد، ورغم أن عقدا من الزمان مر علي وفاة سعاد حسني بسقوطها من شقة كانت تستأجرها في العاصمة البريطانية، إلا أن القصص المرتبطة بمصرعها تزداد وقد سمعنا هذا العام حكايات جديدة عن "السي دي" الذي يملكه حسين فهمي، أحد الفنانين الذين ارتبط اسمهم بسعاد في أنجح أفلامها "خللي بالك من زوزو"...كما سمعنا حكاية زميلتها نادية لطفي التي توقن أن سعاد قتلت بسبب سلوك وردود أفعال نادية يسري الصديقة - وزميلة المخابرات سابقا - التي كانت الأقرب لها خلال السنوات الأخيرة من حياتها في لندن...وبما أن الثورة قامت فقد أصبح من الممكن نشر حكايات كانت شفاهية حول ضابط المخابرات الذي كان مسئولا عن تجنيد الفنانات والنساء، وعلي أساس أنه كان يحتاج إلي قتلها ليمنعها من نشر هذه المعلومات التي يعرفها الجميع ومنشورة علي الإنترنت وفي مذكرات اعتماد خورشيد وغيرها من الكتب. نصف قرن مر علي حكاية زواج حليم وسعاد، وعقد مر علي حكاية اغتيالها، وكل ما لدينا هو قناعة تزداد بصحة الحكايتين دون أن يظهر دليل واحد علي صحة أي منهما. كل ما لدينا شهادات غامضة لشهود مثيرين للشك والريبة مثل الصحفي الذي روج لقصة الزواج في حياة سعاد والأخت التي تبحث عن دور وشهرة ومال علي حساب الحقيقة وجثة أختها...وغيرهما طابور طويل من الفنانين والصحفيين والمحامين الذين يعيشون ويتعيشون علي الأوهام. الحقيقة نفسها غير مرغوب فيها، ولا أحد يهمه أن يعرف الحقيقة لأن الأسطورة أجمل وأكثر درامية وتأثيرا، ولأن معظم الناس يفضلون سخونة الخيال علي برود المنطق، ولأن الأسطورة تناسب عقلنا الخرافي البسيط أكثر مما تناسبه الأرقام والوقائع. هؤلاء الذين يحبذون قصة الزواج بين حليم وسعاد يتجاهلون شهادات أخري تؤكد العكس، وتثبت أن مرض عبدالحليم كان يمنعه من الزواج تقريبا، وأن شخصية سعاد الجامحة كانت تمنعها من الزواج من شخص مريض. ولو أن المسألة تتعلق بشهادة شخص هنا وآخر هناك فلدي شخصيا شهادة شيخ النقاد الراحل حسن إمام عمر، الذي روي لي في جلسة خاصة كيف رفضت سعاد حسني أن تتزوج من عبد الحليم لأسباب جنسية! وهؤلاء الذين يحبذون قصة انتحار سعاد حسني يتجاهلون وقائع وشهادات تشير للعكس، منها ميل سعاد الفطري إلي الانتحار ومحاولتها لقتل نفسها مرتين علي الأقل قبل موتها. المرة الأولي عقب وفاة أخت لها في حادث، والثانية عقب فشل أحد أعمالها...والشاهد علي القصتين الموسيقار عمار الشريعي شخصيا الذي ذكرهما في حوار معه نشرته مجلة "نصف الدنيا" عقب وفاة سعاد. هذا مجرد مثل واحد يمكنني نشر عشرات غيره لو أن المساحة تسمح، ولكن الأكيد أن الغالبية من القراء لن يقتنعوا، وأن بعضهم سيسرد في المقابل عشرات "الأدلة" المضادة التي تثبت زواج العندليب والسندريالا وقيام صفوت الشريف بقتلها، والمسألة كما ذكرت لا تتعلق بالرغبة في معرفة الحقيقة ولكن بالرغبة في أن تكون هذه هي الحقيقة. الأسطورة ليست كذبا، رغم أن هناك الكثير من الكذابين، ولكنها تعبيراً عن الذين يروونها، والذين يروون قصص حب واغتيال كيندي ومارلين مونرو وسعاد حسني وعبدالحليم حافظ انما يفعلون ذلك بفعل حبهم الشديد لهذه الشخصيات العظيمة وتعلقهم النفسي بهذه القصص وفهمهم للعالم وما يجري فيه وفقا للدراما التي تنسجها هذه القصص. قصة العندليب والسندريالا تمثل العلاقة بين الرجل والمرأة وبين المواطن والأقدار التي تقهره وتفسد حياته وحبه، ولو تذكرنا أفلامهما سنجد أن هذه هي القصة والدراما الأساسية في الغالبية العظمي منها. كتبت منذ عدة سنوات - في نفس الذكري -عن التشابه بين حياة وأعمال عبدالحليم وسعاد حسني وأحمد زكي وبين أسطورة ايزيس وأوزيريس وابنهما حورس التي نتوارثها منذ عهد الفراعنة، والتي تتناول بالأساس فكرة الموت والبعث مجددا، وهي الفكرة الأساسية التي تشغل بال المصري علي مدار تاريخه...وبما أننا نعيش فترة بعث بعد موت هذه الأيام فلا عجب أن يكون ميلاد عبدالحليم وموت سعاد وإحياء ذكراهما وفنهما هي الموضوع الشاغل لنا الآن...هذه القصص التي نحيا بها وعليها أهم من الحقيقة نفسها أحيانا! تورط صفوت الشريف في الجريمة، بإعتباره