أفرزت عاداتنا المتأصلة في جيناتنا المتوارثة عند مواجهة المشكلات والتى قد تكون صغيرة في ظاهرها، عميقة في باطنها ما يسمى بثقافة التجاهل وقد يكون هذا التجاهل ناشىء من اللامبالاة أو من عدم الإدراك الواعى بأثر تلك المشكلات فى المستقبل على مستوى البُعد الاجتماعى ومن ثم الاقتصادى والأمنى والاستراتيجي، فالمشكلة بوجه عام مثل النار تبدأ من مُستصغر الشرر ثم تتحول إلى نار مؤججة تأكل وتدمر دون تمييز إن لم يتم مواجهتها في بدايتها. وسوف نتناول هنا أحد أهم المشكلات التي تواجه مجتمعنا وهي مشكلة البطالة، وقد حاولت الحكومات المُتعاقبة ايجاد الحلول لها والغير مدروسة الحل تلو الآخر ومنها إنشاء الصندوق الاجتماعى للتنمية وقامت فيما تظُن أنه تيسير للكثير من الاجراءات لحصول الشباب على القروض الميسرة لاقامة مشروعاتهم الصغيرة وقامت بعقد الندوات والدورات التدريبية لكثير من المختصين بالبنوك لتأهيلهم للتعامل مع مثل هذه القروض الممنوحة لمثل هذه النوعية من المشروعات والتى تختلف بكل المقاييس مع سائر أنواع الائتمان الأخرى. وبصرف النظر عن هذه الآليات جميعها والمحاولات المستمرة التى قامت بها الحكومات المتعاقبة إلا أننا نستطيع أن نتفق جميعا على أنها لم تُحقق الهدف المرجو منها، والسؤال الذى لابد أن يطرح نفسه هنا، هل قامت تلك الحكومات المتعاقبة بدراسة متأنية لهذه المشكلة وقامت بالتحليل المستفيض في الوقت المناسب، أم أنه طبقا لثقافاتنا الجينية المتوارثة تركناها حتى تحولت إلى عضال ثم اكتفينا بنقل تجارب الدول الأخرى في هذا المجال وهل هذا النقل برمته يصلح لنا، أم يستلزم تعديله وتأهيله ليناسب عاداتنا وثقافاتنا الموروثة وظروفنا حتى لا يصبح هذا النقل مبتور يُزيد من تسعير وتأجيج للمشكلة. وكما نعلم فالمشروع أي إن كان حجمه لابد أن تتوفر له دراسة جدوى تشتمل على الكثير من العناصر منها (كفاءة الإدارة – التكنولوجيا المستخدمة – دراسة السوق والمنافسة (مدى الاحتياج للمنتج / السعر المناسب / والجودة المطلوبة). وحتى نقترب أكثر من آليات فشل المشروعات الصغيرة، فهناك بعض البنوك التى اتفق معها الصندوق الاجتماعى للتنمية (صاحب المال) لإقراض مثل هذه النوعية من المشروعات الصغيرة ، فمن يريد أن يقيم مشروع صغير عليه أن يذهب إلى أحد أفرع تلك البنوك مقدماً دراسة جدوى قد يكون الغرض منها الأساسى هو الحصول على المال ليس إلا أو لأغراض أخرى متعددة ليس من ضمنها اقامة مشروع، ويقوم البنك بدوره بعمل مراجعة نمطية، وفى حال آخر يتم تقديم دراسة الجدوى من فرع البنك المُقرض، وليس هناك فرق فكلاهما لا تتوفر له مقومات النجاح، فأدق دراسات الجدوى والتي يتوفر لها التمويل والخبرات لابد من حدوث انحراف فيها، فما بال حال الدراسات التى يقدمها المُقترض او التى يعُدها البنك المُقرض او حتى المقدمة من بعض الجهات المعنية. و يبدأ المُقترض رحلة عناء لتنفيذ مشروع بلا خبرة في الإدارة او دراسة للسوق ودون أي من المقومات المطلوبة لانجاح مشروعه علاوة على زهادة التمويل الممنوح، وليفاجأ بعد ذلك بأنه كسمكة في بحر من الحيتان. وبنظرة صغيرة للعالم وللشركات من حولنا نجد أن الشركات لكي تبقى تقوم بالاندماج وتتحول إلى شركات عملاقة تتعدى رؤوس أموالها مليارات الدولارات ولا مانع من أن تكون شركات متعددة الجنسية فالغرض الوحيد هو البقاء والانفراد بالسوق في ظل آليات جديدة نعرفها جميعاً فُرضت على الأسواق. وفى ظل هذا هل نتوقع نجاح مستثمر صغير بلا خبرة وبلا مقومات أساسية وبرأس مال لا يتعدى عشرات الآلاف من الجنيهات أن يكون له مجرد حتى وجود في السوق. وإذا رجعنا إلى تجارب الدول من حولنا مما تنبهوا وعالجوا مشكلة المشروعات الصغيرة واثرها المدمر على المجتمع فأوجدوا لها الحلول طبقا لمنظومة المصالح والمنافع المشتركة والتى تقوم عليها ثقافتهم فيتحول اسم مفهوم المشروع من مشروع صغير إلى مشروع مُغذى، بمعنى أن يقوم كل مستثمر كبير في مجاله باحتضان عدد من المشروعات الصغيرة ويجعلها بمثابة صناعات مُغذية له يمد لها يد العون سواء إن كان خامات أو أبحاث أو مواصفات ويكون الاشراف الكامل من قبله لأنها في النهاية صناعات مغذية –أولية- سوف تدخل في منتجه النهائي الذي يحمل اسمه ونرى هنا أن المستثمر الصغير تلاشت عنه أعباء جسام أهمها التسويق فهو في ظل هذه المنظومة يضمن بيع منتجه قبل أن يصنعه من خلال تحقيق مبدأ تبادل المصالح والمنفعة فيتوفر لها عوامل البقاء والنجاح والنمو. وبظرة سريعة نجد أن مكونات المنظومة القائمة والناجحة فى كثير من الدول نجد أنها تتكون من هدف – سياسات – آليات – ثقافة شعب – نية صادقة، فكانت النتيجة النهائية صلاح العمل، وعند مقارنتها بما قامت بنقله حكوماتنا المتعاقبة أصلحها الله على أرض واقعنا نجد هدف غير واضح الملامح ونية يعلمها الله ومن ثم سياسات وآليات غير ملائمة وغير متوافقة وأخيرا ثقافة شعب لا تتمشى ومثل هذه المنظومة. ولن استند هنا لأي بيانات احصائية رسمية عن حال المشروعات الصغيرة، فالواقع أبلغ من أي بيان. "ومن أعمالكم سلط عليكم" ", (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96)