لمدينتى الصغيرة فى أيام المطر رائحة الصمت، عم الانكماش، حين تغفو الأبنية والبشر وتتقلص الحيوات كلها إلى حركة مكتومة خلف باب وشروع مبكر للنوم تحت غطاء سرير وكمون مطلق للموجودات جميعًا. أختصر طرقًا نحو شارعنا فتخذلنى الحنكة، فالطريق مصيدة للتزحلق والطين فى طزاجة الهطول الأول للمطر ينتظر الأقدام المتعبة وجبن مشروع -وسط المطر والظلام والصمت- أن يكون هذا الخط الطويل الملتوى من الطين ثعبانًا أسود فى الظلام ينهب قدمى ويجرنى إلى الموت فى وحل الليالى، أو ربما تتفكك بحيرات الماء عن أيادٍ غليظة مكسوة بالطمى والماء المتصبب وعروق نافرة فتشدنى إلى حفر عميق وضحك ملجوم وأصوات مدفونة ونباح كلاب يعزز الخوف بالارتباك. فجأة يخرج الرعب المنتظر من ناصية ما.. كلب شريد يهتز بطنه المكسو بطين، نام فوقه وأرجله مفروسة فى وحل ينتقل به فى ماء وبرك، والمطر يقطر فوق جسده ووجهه غير مكتمل الملامح فى ارتعاش النظارة على الأنف كأن المثلث لا بد له أن يكتمل، المطر والظلام والكلاب. حين جريت إلى أُمِّى كان كل شىء قد استقر فى التاريخ، مررت من الفرن إلى بيتنا أحمل حقيبة بلاستيكية محملة بدورها بالخبز، وحين لامست قدمى شيئًا طريًّا لينًا عرفت أنها المأساة، كلب ضخم نائم عكرت نومته فنهض مفزوعًا ينبح فى قسوة، وعدوت بكل ما فى جسدى من خوف لكنه لحق بى، أمسكت حوافره أخيرًا ببنطالى، وحين أدرك أنه ينتقم منى كنت قد عبرت أمتارًا فى قفزة، وكان قد تمكن من البنطال فمزقه وأنا أبكى وجيران من الأبواب والنوافذ صرخوا عليه وجروا نحوه، لكنى صرت الآن وحيدًا أمامه، فى المطر والليل، وكانت عيناه مثبتتين -هكذا شعرت- عند حقيبتى وكفّى. غاصت أقدامى فى برك المياه ووحل الطين وتخبط الحجارة وغموض الأمكنة وعتمة مسيطرة على مسافات متباينة، رأسى يأخذ زاوية حادة نحو الكلب، ولهثى يزداد والمطر يسكن لثوانٍ والبلل يغرقنى ويثقل حركتى، وخطوات الكلب منتظمة دقيقة تئن فوق الطين وتثير ماء فى اصطدامها بالبرك وتخط آثارها على الشارع الموحل. على يمينى سور لبيت كبير ومدق ضيق ناحل خالٍ من الماء، أسير عليه فتنهرنى انحاءاته، ولكن الكلب يسير جانبى موازيًا لى فوق الماء المفروش على الأرض. هل اقترب بيتنا؟ لا أحد فى الشوارع؟ (كأن كل شىء انسحب للمواجهة الوحيدة بينكما). على غفلة من إدراكى، هلعت، كانت حلقة من كلاب على ذات الوحل والطمى والماء والتشرد قد تجمعت مع الكلب الأول وساروا جميعًا جوارى، خلفى، موازاتى وأنا مرعوب حتى توقف الرئة، مدفوع بعار الهزيمة، مجلل بمرارة شرسة تعطل تفكيرى عن أية محاولة للفكاك.. الأقدام ثقلت بالطين على الطين، ترنمت خطواتها بالمطر على الماء، وتكاثرت وتكتلت والتصقت أجسادها واختلطت سيقانها واهتزت ذيولها فى وعيد رعديد، وفكرت لوهلة أن أقف لكننى لم أجرؤ، ظننت أن الموت جوار بيتنا أكثر رحمة من الموت بعيدًا عنه، وأن ملائكة مرسلين من لله سوف يأتون عند بدنى، فيتدافعون، ملائكة الفرح مع ملائكة الحزن أيهم يحملنى إلى نهايتى، حتى يفصل بينهم حل وسط فيعدون المسافة بينى وبين بيتى، فإن كانت أقرب من مسافتى إلى ناحية الشارع أذهب إلى موت فرح وهدأة جراح. عبرت الناحية والتفت ثانية فلم يظهر كلب خلفى، فاشتعل فى صدرى الهدوء ثم جريت بأقصى ما فى قدمى من سرعة، يلوثنى الطين والماء وأكاد أتعثر وأسقط وأستند إلى جدران بيوت متشققة بالمطر، مبلولة مغسولة يهترئ طلاؤها وتتهاوى قشرته على الأرض مدغدغة تمامًا، مسحوقة فى الماء والطين الذى يكسو أسفلت الشارع وحفره التى صنعتها التطورات الطبيعية لكل ما هو مرصوف فى الوطن. أحس فى انفراد مدهش عرقًا يمتزج مع مطر على جبهتى ووجهى حين ضغطت على جرس البوابة فدق صوته، أعرفه رنينًا نبيلاً فى الصالة، وحين تحركت أقدام خلف الباب تسأل مَن؟ أجبت فى زهو، خرجت أُمّى ملفوفة فى دثارات شتوية ثقيلة وأصابعها تمسك بالمفاتيح، تتجاوز الأحذية الملوثة بالطين الموضوعة أمام باب الشقة، تعبر السلالم الصغيرة المؤدية إلى البوابة الخضراء، تدوس على آثار المطر على مدخل بيتنا. - حمدًا لله على السلامة.. وحين ظهر وجهها من خلف البوابة واضحًا نقياًّ محمر الخدود من دفء مصنوع فى الداخل، ظهرت عند الناصية قافلة الكلاب تجرى فى سرعة سيارات لعبة الأتارى نحوى، ضغطت أُمّى على مقبض البوابة فأصدر صوته الأليف ودفعت البوابة وأنا ألتمس من عين أُمّى إنقاذى من سعى الكلاب النابحة خلفى، انزلقت فى حضنها وهى تعيد البوابة إلى الانغلاق وتسأل.. – يا ساتر، ما كل هذه الكلاب؟.. هل كانت خلفك؟ كل هذه الكلاب -وغيرها- كانت خلفى، لكننى أستبيح الصمت على الهزيمة.