أتاح لى عملى بقسم التحقيقات الصحفية بمجلة أكتوبر .. وكان ذلك قبل أكثر من ثلاثين عامًا الالتقاء بالعديد من الشخصيات العامة.. سألتهم واستمعت إلى إجاباتهم ونقلت كلماتهم وآراءهم للقارئ.. بعضهم كان يتكلم وكأنه لم يتكلم فيقول كلامًا لا معنى له ولا فائدة.. وبعضهم كان يحفر فى ذاكرتك بكلماته أخاديد عميقة! من هذا النوع الثانى مجدى حسنين صاحب مشروع مديرية التحرير. كان مجدى حسنين واحدًا من الضباط الأحرار الذين شاركوا فى ثورة 23 يوليو.. وكان دوره هو تأمين محطة إرسال أبوزعبل لضمان عدم تعطيل إذاعة البيان الأول للضباط الأحرار والذى سمعه الناس بصوت أنور السادات. ولم تكن هذه الأحداث هى سبب لقائى بمجدى حسنين! كنت أيامها مشغولًا بعمل تحقيق صحفى عن مشروع مديرية التحرير الذى حظى فى ذلك الوقت بجدل كبير.. البعض اعتبره نموذجًا للمشاريع القومية التى ساهمت فى تحقيق نهضة مصر الزراعية.. والبعض اعتبره نموذجًا للفشل والإخفاق!.. وقابلت كثيرين واستمعت إلى آرائهم لكننى قلت لنفسى إن كل ذلك سيكون بلا معنى إذا لم ألتق بمجدى حسنين صاحب فكرة مشروع مديرية التحرير وصاحب مسئولية تنفيذه. وحدّثنى مجدى حسنين عن المشروع وعن معارضة بعض الضباط الأحرار له مثل صلاح سالم وجمال سالم.. ثم عن تدخل عبد الناصر وموافقته على المشروع وتكليفه بتنفيذه. وراح مجدى حسنين يسرد لى تاريخ المشروع فقال إنه قام بتشكيل كتائب من الجنود والفدائيين الذين شاركوا فى حرب 1956 لتنفيذ المشروع.. وبدأ المشروع يحقق نجاحًا ملحوظًا لكن يبدو أن مسألة كتائب العسكريين والفدائيين التى تعمل فى المشروع قد أزعجت بعض الضباط الأحرار فاجتمع عبداللطيف بغدادى وزكريا محيى الدين وعبدالحكيم عامر وكمال الدين حسين وقرروا إقالته من منصبه كعضو منتدب مسئول عن المشروع.. وضغطوا على عبدالناصر حتى وافق على إقالته! ومضى مجدى حسنين فى روايته فقال إنه لم يسمح لنفسه باليأس والإحباط فقدم مشروعًا آخر لإنتاج الأسمنت.. وكأن أول مشروع من نوعه فى مصر.. ووافق عبد الناصر على المشروع وكلّفه بتنفيذه.. لكنه أقيل يوم أن بدأ المشروع فى الإنتاج الفعلى.. وكان السبب هذه المرة هو على صبرى الذى شعر بالغيرة من مجدى حسنين الذى استطاع تشكيل جهاز طليعى ينافس الجهاز الطليعى الذى أنشأه على صبرى! وانتهى اللقاء وسكت الكلام بعد مرور ساعة كاملة.. وصافحت مجدى حسنين مودعًا بعد أن حصلت منه على إجابات لكل تساؤلاتى لكنه فجأة استوقفنى وقال لى فيما يشبه الهمس: قدمت بعد ذلك اقتراحًا لجمال عبد الناصر بتنفيذ مشروع منخفض القطارة لكنه لم يوافق.. وسألت عن السبب فامتد لقائنا ساعة أخرى! عاد بى مجدى حسنين إلى مكتبه مرة أخرى وأخرج خريطة كبيرة وراح يحدثنى عن مشروع منخفض القطارة. قال لى وهو يشير بإصبعه إلى منطقة العلمين ومطروح.. فى هذه المنطقة يوجد منخفض هائل يصل عمقه إلى أكثر من 140 مترًا تحت سطح البحر المتوسط.. فإذا قمنا بعمل مجرى مائى بطول 75 كيلومترًا تندفع فيه مياه البحر إلى المنخفض.. يمكن استغلال اندفاع المياه لتوليد طاقة كهربائية هائلة نستطيع استخدامها فى تحلية مياه البحر وزراعة الصحراء الغربية. وسألته مندهشًا: نزرع الصحراء الغربية.. ولماذا لم يوافق عبد الناصر؟! ورد مجدى حسنين مبتسمًا: كان من الممكن أن تقوم حرب عالمية ثالثة لمنع مصر من تنفيذ هذا المشروع!.. أمريكا والاستعمار لم يكونا ليسمحا لمصر بأن تصبح قوية للدرجة التى تستغنى بها عن الغرب وعن العالم كله.. ثم إن المنطقة العربية كلها كانت ستستفيد من نتائج هذا المشروع والاستغناء عن الغرب فكيف تسمح أمريكا وكيف تسمح دول الاستعمار بذلك؟! ولم تفارق كلمات مجدى حسنين ذاكرتى وعشت سنوات طويلة أفكر فى هذه الكلمات وفى هذا المشروع الذى يمكن أن يغير وجه الحياة فى مصر.. وأصبح منخفض القطارة بالنسبة لى حلم كبير. وفجأة وجدت من يتحدث عن هذا الحلم ويسعى لتحقيقه! أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسى مؤخرًا قرارًا بتفويض وزير الكهرباء فى تشكيل هيئة لدراسة تنفيذ مشروع منخفض القطارة. وهناك من يؤكد أن المشروع وإن كان يحتاج إلى استثمارات هائلة إلا أن فوائده مذهلة. أول هذه الفوائد إنتاج طاقة كهربائية نظيفة توفر لمصر 1500 مليون دولار سنويًا وتزيد من فرص الاستثمار الصناعى فى المنطقة.. ويمكن من خلال المشروع أيضًا زراعة ملايين الأفدنة فى الصحراء.. كما أن المشروع يتيح إنتاج كميات هائلة من الأملاح تجعل مصر أكبر دولة فى العالم إنتاجًا للأملاح.. كل ذلك بالإضافة إلى إنشاء ميناء بحرى جديد يخفف الضغط على ميناء الإسكندرية وإنشاء مشروعات سياحية.. والأهم تسكين ملايين المصريين وخلق فرص عمل لهم. وتقتضى الأمانة أن نقول إن هناك أيضًا من يعارض المشروع ويرفضه لآثاره السلبية مثل الدكتور خالد فهمى وزير البيئة الذى يقول إن المشروع سيتسبب فى ارتفاع منسوب المياه الجوفية وزيادة عمليات الرشح التى قد تؤثر على البيئة التحتية للمنطقة.. فضلًا عن التأثير السلبى على الكائنات الحية من حيوانات وغيرها! من يحكم أيهما على حق.. المؤيدون للمشروع أم المعارضون له؟ ليس أمامنا إلا علماء مصر الكبار من أمثال الدكتور فاروق الباز والدكتور أحمد زويل وغيرهما من علماء مصر الكبار الذين استعان بهم مؤخرًا الرئيس السيسى وطالبهم بمشاركته فى تحمل المسئولية. وليس مطلوبًا منهم إلا أن يتحملوا مسئوليتهم ويقولون لنا إن كان المشروع بالفعل سيحقق كل ما هو متوقع منه من فوائد ومكاسب.. أم أنه سيتسبب فى نتائج سلبية وكارثية على المنطقة.. ليس مطلوبًا من هؤلاء العلماء إلا أن يتكلموا!