على الرغم من ثقة المخابرات الأمريكية، من أن (روبرت هانسن) هو ذلك الجاسوس، الذى يمد السوفيت بكل المعلومات من داخلهم، إلا أنه كان من الضرورى إثبات الإيقاع به متلبساً، كما تقتضى القواعد ... ولقد توًَّقع منه الكل انهياراً، واضطراباً، أو شيئاً من المقاومة على الأقل، ولكن (هانسن) لم يبد شيئاً من هذا، فقد كان يدس المعلومات، فى نفس المكان، الذى اعتاد وضعها فيه، طوال سبعة عشر عاماً، عندما فوجئ بزملائه من حوله، يحيطون به، ويلقون القبض عليه متلبساً، فأدار عينيه فى وجوههم فى هدوء، وهو يسألهم: « لماذا تأخرتم يا رفاق؟!...»... كان يتساءل : كيف أنهم لم يكشفوا أمره، طوال سبعة عشر عاماً، عمل فيها كجاسوس للسوفيت، وهو المسئول عن متابعة النشاط السوفيتى المضاد !!... وفى حجرة التحقيقات، توالت المفاجآت ... فعندما تم انتداب (هانسن) من الشرطة الفيدرالية، إلى المخابرات الامريكية، اقتصرت مهمته على نقل جميع الملفات السرية إلى أقراص رقمية، بحيث يسهل تجميعها، وربطها ببعضها البعض، وإيجاد كافة المعلومات داخلها... ولقد قام (هانسن) بعمله خير قيام، وكان يقضى أكثر من اثنتى عشرة ساعة يومياً، فى نقل المعلومات، من الوثائق إلى القرص الصلب، ويؤدى عمله فى آلية، جعلت الكل ينسى أمره، ويعتبره عميلاً لا شأن له، ومجرًَّد ناقل معلومات فحسب، ونسى الكل أن هذا يعنى أنه يمتلك كل المعلومات، مهما بلغت درجة سريتها، عن كل عمليات وعملاء المخابرات الامريكية، فى كل بلدان العالم، وبالتحديد فى قلب الاتحاد السوفيتى ... ولقد اندهش السوفيت بشدة، عندما اتصل بهم (هانسن)، ومنحهم قدراً رهيباً من المعلومات، وبعد تحريات دقيقة، اعتبروه واحداً من أهم وأخطر رجالهم، فى قلب المخابرات الأمريكية ... ولكن المفاجأة الحقيقية، بالنسبة لرجال المخابرات الامريكية، كانت أن (هانسن)، وطوال سبعة عشر عاماً من التجسًَّس، وعلى الرغم من خطورة المعلومات، التى نقلها إلى السوفيت، لم يتقاض منهم سوى سبعمائة ألف دولار فحسب، وهو مبلغ يعد شديد الضآلة، مقارنة بما يتقاضاه جواسيس أقل شأناً، فى ربع هذا القدر من الأعوام، ومقابل معلومات أقل أهمية وخطورة!!... المفاجأة الثانية، هى أن (هانسن) لم ينفق الكثير من هذه الاموال على أسرته، أو حتى على نفسه، فبخلاف سيارة مرسيدس، لم يزد إنفاق أسرته كثيراً، إلى الحد الذى يمكن أن يثير الشبهات، ولم يشتر أية هدايا فاخرة لزوجته أو أولاده؛ لعلمه بأن زوجته لن تتقبًَّل أية هدية، إلا لو علمت مصدر ثمنها بالضبط؛ إذ كانت شخصية متزنة، وكاثوليكية ملتزمة ...ولقد أقام (هانسن)علاقة عجيبة، مع راقصة تعر، تعرًَّفها فى أحد الملاهى الليلية، وارتبط بها لعدة سنوات، والعجيب أن علاقتهما لم تكن جنسية، كما أقرًَّت الراقصة فى أقوالها، بقدر ما كان (هانسن) يحب التحدًَّث إليها، أو دعوتها إلى العشاء، أو منحها الهدايا الماسية، وكأنه كان يجد فيها تعويضاً عن زوجته، التى لا يستطيع أن يقدًَّم لها هذا ... ولقد حار محققو المخابرات الأمريكية بشأن (هانسن)؛ إذ أنه إن لم يكن يهتم بالمال أو الجنس، وليس صاحب فكر شيوعى، فلماذا فعل ما فعل، وما كان دافعه الأساسى للتجسًَّس؟!... ولقد تم نقل الأمر برمته لقسم التحليل النفسى، الذى راجع كل ما حصل عليه، من رسائل (هانسن) إلى السوفيت والعكس ... وبعد دراسة مستفيضة، كانت المفاجأة الجديدة ... (هانسن)، الذى يعشق روايات الجاسوسية، شعر أنه ضئيل الشأن فى المخابرات الأمريكية، باعتباره منتدباً لنقل البيانات فحسب، فقرًَّر أن يلعب دور (جيمس بوند)، أو دور الجاسوس المحترف عظيم الشأن ... ولما لم يكن هذا ممكناً، داخل المخابرات الامريكية، فقد قرًَّر أن يلعب هذا الدور مع المخابرات المضادة ... مع السوفيت ... ولقد كان من الواضح أن السوفيت قد التقطوا هذا الخيط، وفهموا دافع (هانسن) للتجسًَّس، لذا فقد كانت رسائلهم إليه، تغذًَّى لديه هذا الدافع، فيبدون انبهارهم بما يرسله إليهم، ويصفونه بأنه من أرفع جواسيسهم شأناً، وبأنه جاسوس عظيم، وإذا ما أرسل إليهم عبارة ساخرة، محاولاً تقليد أسلوب (بوند)، فهم يشيدون بروحه الساخرة، وبذكاء عباراته ولذوعتها ... ولقد بدا لهم أن هذا أرخص كثيراً من أن يدفعوا له المال، طالما يكتفى بما يرسلونه إليه، ولا يعترض أو يطالب بالمزيد، مثل أى جاسوس آخر ... أعجب ما فى امر قضية (هانسن)، وما يستحق أن يكون المفاجأة الحقيقية، هو أنه خلال الاعوام السبعة الاخيرة من تجسًَّسه، ادركت المخابرات الامؤيكية أنه هناك حتماً جاسوس بين صفوفها، وعقدت لجنتين، خلال تلك الفترة، فى محاولة لكشف هوية ذلك الجاسوس، وفى كل مرة، كان (هانسن) يمحو المعلومات، التى يمكن أن تدينه، من ملفاتهم، باعتبار أنه المسئول عن النسخ الرقمى، وذات مرة تسلًَّل إلى الكمبيوتر المركزى للمخابرات؛ لمعرفة ما إذا كانت الشبهات قد أحاطت به أم لا، ثم محا هذا الدخول من برنامج الكمبيوتر المركزى، ولم ينتبه إليه أحد، بل إنه كان يتابع خطوات وبرامج لجان البحث عن الجاسوس، عبر الكمبيوتر الخاص به، ولم يكشف أحدهم هذا ... فقط عند سقوط الاتحاد السوفيتى، وانهيار جهاز الكى. جى. بى، والحصول على ملف مراسلات الجاسوس، انتبه البعض إلى عبارات الرسائل، التى تتشابه مع عبارات (هانسن)، وبدأ وضعه تحت المراقبة الدقيقة .. وعندما سأل المحققون (هانسن)، كيف استخدم نقطة اتصال واحدة، طوال سبعة عشر عاماً، أجابهم فى بساطة، أنهم لم يكشفوا أمرها، طوال كل تلك الفترة، وهذا دليل نجاحها ... ولم يستطع أحدهم أن يعترض، على قوله هذا، والذى يثبت أنه فى عالم الجاسوسية والمخابرات، لا توجد ثوابت، وأن كل شئ ممكن، وكل احتمال وارد... وكل شئ يمكن استخدامه واستغلاله... ولهذا بالتحديد واقعة شديدة الغرابة، خلال الحرب العالمية الثانية،و ... لهذا رواية أخرى.