الإيقاع بالجاسوس فن، لا يقل براعة عن كشفه وتحديد هويته؛ لأن إلقاء القبض على جاسوس، يختلف تمام الاختلاف، عن إلقاء القبض على مجرم عادى، مهما بلغ إجرامه، أو بلغت درجة خطورته؛ ففى كل الاحوال، ومهما كان الجرم، فإلقاء القبض على مجرم، يعد شأناً داخلياً، يخص أية دولة، دون أن يخص سواها، إلا فى حالات الجريمة الدولية، وهى حالات نادرة نسبياً، فى حين أن إلقاء القبض على جاسوس هو شأن دولى، يخص الدولة التى أوقعت به وكشفت أمره، ويخص أيضاً الدولة التى جنًَّدته، أو المتهمة بهذا ...أى أن اتهام شخص ما بالتجسس، هو اتهام ضمنى لدولة، بأنها وراء هذا ...وهذا ليس الفارق الوحيد بين إلقاء القبض على مجرم ما، وإلقاء القبض على جاسوس، فالفارق الأكثر أهمية، هو أن المجرم يمكن القبض عليه، فور كشف هويته، وتوجيه أصابع الاتهام إليه، أما مع الجاسوس، فالأمر يختلف تمام الاختلاف ... فكشف الجاسوس يعَّد الخطوة الأولى - فحسب - من العملية، وبعدها تأتى الخطوات الأكثر أهمية، وهى إثبات الإتهام أوًَّلاً، باعتبار أنه، كما قلنا، اتهام ضمنى لدولة، ومن المحتًَّم أن يكون موثقاً، وربما بالصوت والصورة أيضاً، قبل إلقاء القبض على الجاسوس...وحتى بعد وجود كافة الإثباتات، لا يتم إلقاء القبض على الجاسوس مباشرة، بل تتم دراسة الأمر دراسة متأنية أوًَّلاً؛ لتحديد الوقت المناسب لإلقاء القبض عليه ... ففى بعض الأحيان، وبالذات فى زمن الحروب، يكون من الأفضل ترك الجاسوس، بعد كشف هويته؛ لاستغلاله فى توصيل معلومات بذاتها إلى العدو ... تماماً مثلما حدث فى حالة الجاسوسين (إبراهيم حسين شاهين)، و(انشراح على موسى)، وهى حالة فريدة فى عالم الجاسوسية، إذ تم تجنيد (إبراهيم) فى قلب (سيناء)، عقب الاحتلال الإسرائيلى عام 1967م، وقام بتجنيد زوجته (انشراح)، التى دفعتها شهوة الطمع إلى الموافقة الفورية، وعندما كشف ابنهما الأكبر (نبيل) أن والديه جاسوسين إسرائيليين، قاما بتجنيده معهما، وبعده شقيقه الأصغر (محمد) لتتحوًَّل العائلة كلها إلى عائلة مسمومة بسم الخيانة الزعاف.... ولقد كان (نبيل) هو مفتاح سقوط الأسرة بأكملها، إذ أنه كشاب لم يستطع كبح جماح نفسه، وراح ينفق بسخاء، من نقود الخيانة، على نحو لا يتفق مع مستوى دخل أسرته المعلن، مما جذب الانظار إليه، ووضعه تحت المراقبة، لتكشف المخابرات أمر أسرة الخيانة، مع بداية السبعينات، ويتبيًَّن لها أنه من كثرة المعلومات، التى أرسلتها العائلة المسمومة إلى (الموساد)، تم إلحاق (إبراهيم) و(انشراح) بالجيش الإسرائيلى، تحت اسمى (موسى عمر) و(دينا عمر)، وأقيم لهما حفل استقبال فى (تل أبيب)، كانت صوره على مكاتب المخابرات المصرية، بعد يومين فحسب ... وهكذا انكشف أمر عائلة الخيانة، وبقى اتخاذ قرار إنهاء العملية، وإلقاء القبض علي الجواسيس ... ولو أننا نتحََّدث عن جريمة عادية، لتم إلقاء القبض على العائلة كلها فور كشف أمرها، ولكن ولأن الأمر يتعلًَّق بالجاسوسية، فقد وجدت المخابرات أنه من الأفضل أمنياً، تركهم يمارسون خيانتهم، مع دس معلومات مغلوطة عليهم، تؤدى إلى توصيل انطباع قوى للعدو، بأن (مصر) لا تنوى الدخول فى حرب معه، لفترة طويلة قادمة ... وبالفعل، تم دس أحد المجندين على الأسرة، من خلال علاقته بالابن الأكبر، وعبر هذا المجند، تم إيصال الانطباع للجاسوسين، اللذين أرسلاه بدورهما إلى العدو، وكانت ضربة أكتوبر 1973م المباغتة، التى أربكت العدو، وخالفت كل ما أرسله إليه جواسيسه ...ولقد تم استدعاء (إبراهيم) و(انشراح) إلى (تل أبيب) بعدها، ولأن رجال المخابرات محترفون بحق، فقد تركوهما يسافران، مع وضعهما تحت مراقبة دقيقة خفية، وفى (تل أبيب)، سألهما رجال المخابرات الإسرائيلية عن كيف خدعهما المصريون، ثم طلبوا منهما فتح عيونهما وآذانهما جيداً، والاستعانة بكل مصادرهما، للتيقن مما إذا كان المصريون ينوون القيام بضربة تالية، أم أنهم قد اكتفوا بهذا، ثم منحوهما جهاز إرسال متطوًَّر، هو نسخة أولية من الهواتف المحمولة الحالية، يمكنهما بوساطته إرسال رسالة نصية، تحوى المعلومات، من أى مكان خارج المنزل ...ولقد عادا بالجهاز إلى (القاهرة)، وقاما بتجربة إرسال، ولكن أزرار الجهاز تعطلًَّت، فتم إبلاغ (تل أبيب)، التى حدًَّدت لهما موعداً فى (روما)؛ لاستلام طاقم أزرار بديل، فسافرت (إنشراح) لاستلام طاقم الأزرار، فى حين بقى (إبراهيم) فى (القاهرة) ... وهنا رأت المخابرات أنه قد حان وقت إنهاء العملية، فأطبقت على (إبراهيم) فى منزله، وكان من الضعف بحيث انهار فورأن قدموا أنفسهم إليه، باعتبارهم من رجال المخابرات العامة، بصحبة وكيل النائب العام، وكان يرتجف، وهو يخط اعترافه الكامل، وإن أبقى عليه رجال المخابرات فى منزله؛ ليواصل اتصالاته بزوجته، بعد أن أكًَّدوا له عمليا، أنهم على دراية كاملة بكود الأمان، المستخدم فى الاتصالات، وحذروه بشدة من استخدام كلمة (ألو) فى بداية المكالمة، حيث أنها وسيلة سرية؛ ليخبر زوجته أنه يجرى المكالمة تحت الضغط ... ولقد أطاعهم (إبراهيم) تماماً، حتى أن (انشراح) قد عادت هادئة مطمئنة، وفوجئت برجال المخابرات، عند دخولها المنزل، وعلى عكس (إبراهيم)، فقد ثارت وهاجت وماجت، وهدًَّدت وتوًَّعدت، ثم سرعان ما أدركت أن كل هذا بلا طائل، فاستسلمت للموقف، وانتقلت إلى مرحلة المساومة، ولكن الوقت كان قد انقضى، ولم يعد هناك مجال للتفاوض....هذا مثال لإحدى الحالات، التى يكون فيها الإيقاع بالجاسوس فناً، لا يقل أهمية عن فن كشفه، وهذا يعود بنا إلى قصة (روبرت هانسن)، ذلك الجاسوس النمطى، الذى كان مسئولاً عن مكافحة النشاط السوفيتى فى الولاياتالمتحدةالامريكية، ثم تبيًَّن أنه جاسوس للسوفيت، بعد سبعة عشر عاماً من الخيانة ... فعندما بدأت الخيوط تتكًَّثف، لتكشف خيانة (هانسن) شعر رجال المخابرات الامريكية بدهشة شديدة؛ لأن كل تصرفات (هانسن) كانت واضحة مكشوفة، ربما أكثر مما ينبغى، وعلى الرغم من هذا، فلم ينتبه إليه أحد، لشعورهم بضآلة شأنه، على الرغم من أنه كان يضع يده على كل ملفاتهم بالغة السرية طوال الوقت، ويطلع على كل ما فيها، من خلال توليه عملية النسخ الرقمى لها، وهنا وضعوا خطة لإلقاء القبض عليه متلبساً، وعند نقطة اتصاله، التى لم تتغيًَّر، خلال سبعة عشر عاماً، انتظر الرجال حتى دس (هانسن) المعلومات فى المكان المعتاد، ثم أطبقوا عليه من كل صوب ... والعجيب أن (هانسن) ظل هادئاً، عندما أوقعوا به، وكل ما فعله هو أن سألهم : «لماذا تاخرتم يا رفاق ؟!».. ولقد ظل هادئاً حتى تم نقله إلى قسم الاستجواب، وهناك توالت المفاجآت .... على نحو مدهش.