من الأمور التى لا ريب فى أنك قد لاحظتها يوماً، أنه ما أن يبدأ الحديث عن الجاسوسية وعالمها، حتى ترهف الآذان، وتصغى العقول، وتتسع الأعين، ويرتسم الاهتمام والانبهار على الوجوه ... هذا لأن عالم الجاسوسية والمخابرات، هو عالم مثير؛ لما فيه من غموض وأسوار، تخفى خلفها أطناناً من الأسرار، وتطلق فى الخيال قناطير من الإثارة واللهفة، والشغف بمعرفة أسرار وغوامض ذلك العالم، الذى لا يكشف أستاره لأحد قط، حتى لبعض العاملين فيه ... وهذا يتعلق بعمليات التخابر الخاصة فحسب، والتى تحوى أسراراً تخص دولة بعينها، سواء فى زمن الحرب، أو زمن السلم، أما بالنسبة لفنون عالم التخابر والتجسًَّس، فهى ليست فنوناً سرية أو غامضة كما يتصوًَّر البعض، بل هى اليوم علم معروف، له قواعده وأساليبه، ونظمه وأساسياته، ولكن معرفة العلم شىء، وممارسة فنه شىء آخر تماماً مثل لعبة الشطرنج ... من السهل أن تعرف قواعدها وقوانينها، ولكن ليس من السهل أبداً أن تتفوًَّق فيها، أو أن تصل معها إلى مرحلة الإتقان ... وكل لاعب شطرنج فى العالم يعرف قواعد اللعبة، ولكن هناك من يمارسها على مقهى شعبى بسيط ، ومن يتنافس فيها على بطولة العالم ... وبالقواعد نفسها ... وفنون الجاسوسية هذه لم تتكًَّون فى يوم وليلة، بل هى تراكم لخبرات سنوات عديدة، قد يدهشك أن أقول : إنها آلاف السنين، وهذا ليس أمراً مبالغاً، بل هى حقيقة تاريخية مدهشة ، إذ يسجل لنا التاريخ أن (تحتمس الثالث) هو أوًَّل من وضع لبنة فى فن الجاسوسية ، عندما طال حصار جيشه لمدينة (يافا) ، فأرسل مجموعة من جنوده، داخل أكياس دقيق إلى المدينة المحاصرة ؛ لكى يعملوا على إشاعة الفوضى والاضطراب فيها، ولقد أشار (تحتمس الثالث) إلى خططه المخابراتية باسم (العلم السرى)، وكأنه كان يعلم أنه يضع أول طوبة، فى جدار هائل، صار يحيط اليوم بكل شىء تقريباً ... وحتى عندما أراد (موسى) عليه السلام أن يدخل أرض (كنعان)، أرسل إليها جواسيسه أوًَّلاً؛ ليخبروه عن قوتهم، واستعداداتهم، ومدى تحصينهم ومقدار مؤنهم، وكان بهذا يستخدم فن الجاسوسية بفطرة ربًَّانية مدهشة، جعلت ما طلبه من رجاله، هو نفس ما تطلبه الدول الآن من أجهزة مخابراتها، وهى تستعد للحروب ولكن (صن تسو) ، أبو الجاسوسية الصينية، هو أوًَّل من وضع قواعد فن الجاسوسية فى كتابه (أصول الحرب) ، عام 510 ق.م ، وهذا الكتاب لم يكن أوًَّل ممارسة تجسسية صينية ، ولكنه كان أوًَّل تنظيم لشبكات الجاسوسية ونظمها، التى مازالت متبعة ، حتى يومنا هذا ؛ إذ أن ذلك الكتاب قد قًَّسّم الجواسيس إلى خمسة أقسام : جاسوس محلى : وهو الجاسوس الذى يتم تجنيده ، داخل الدولة التى يتجسًَّس عليها ، ويكون من أبنائها، ويتقاضى مقابلاً نقدياً لعمله ... وجاسوس داخلى : وهو الجاسوس الخائن لوطنه ، فى الصفوف الأولى لهذا الوطن ... وجاسوس محوًَّل: أى ما نطلق عليه الآن اسم الجاسوس المزدوج ، وهو جاسوس أمكن السيطرة عليه ، أو إقناعه بتغيير جهة انتمائه ...ثم جاسوس هالك: وهو شخص يعتمد عليه ؛ لتزويد العدو بمعلومات خاطئة ، وهذا سيلقى حتفه حتماً ، فور انكشاف أمره ... وأخيراً جاسوس أساسى: وهو ذلك الذى يفترض فيه أن يؤدى مهمته ، ويعود منها بسلام ونجاح ... ولقد تغيًَّر ذلك التقسيم بالطبع، مع تطوًَّر علم الجاسوسية، وتطوًَّر فنونها وتقنياتها، ولكن يبقى كتاب (صن تسو) أحد أقدم كتب فن التجسًَّس فى التاريخ .. وما من عصر أو حرب، أياً كانت، لم يستخدم فيها التجسًَّس، كسلاح رئيسى، ينقل المعلومات والأسرار عن العدو ، حتى تنخفض احتمالات المفاجآت، إلى الحد الأدنى ، وترتفع فى الوقت ذاته ، القدرة على مفاجأة الخصم ، وتوجيه ضربات موجعة إليه ... وعلى الرغم من أن (صن تسو) قد وضع أوًَّل قواعد اللعبة، إلا أن فن الجاسوسية له طابع خاص ، يتواكب دوماً مع تطوًَّرات العصر ، بل ويسبقها دوماً بخطوتين على الأقل، مستفيداً طوال الوقت بكل خبرة يكتسبها ، وكل خطأ يقع فيه ، أو تقع فيه حتى أجهزة مخابرات أخرى ... هذا لأن فن الجاسوسية يتطوًَّر دوماً ، فى سرعة تفوق سرعة تطوًَّر أى فن آخر، وللمعلومات فيه أكبر قيمة ، خاصة وأن تراكمها يصنع مع الوقت قاعدة معلوماتية، يستحيل أن تجد مثلها ، فى أى نظام آخر، حيث يتم فيه الاهتمام بأبسط وأدق المعلومات، التى قد تبدو سطحية أو تافهة؛ بالنسبة لأى تفكير غير تخابرى، وأرض الواقع تثبت أحياناً الأهمية القصوى للمعلومات الصغيرة، ففى عملية قديمة، كانت معرفة المشروب المفضًَّل للشخص المستهدف، هى أساس نجاح العملية برمتها إذ كان يحمل حقيبة خاصة، مربوطة فى معصمه بأغلال فولاذية ، وفى الطائرة التى تقله ، قدمًَّت إليه مضيفة الطيران مجموعة مشروبات، كان من الطبيعى أن ينتقى منها مشروبه المفضل ، الذى كان الزجاجة الوحيدة ، التى تحوى عقاراً أصابه بآلام معوية حادة، شخصها أحد الأطباء ، على الطائرة نفسها، بأنه انفجار زائدة دودية، وهكذا، ولأنها حالة طارئة، هبطت الطائرة فى أقرب مطار، وهو نفسه الذى انتظره فيه رجال المخابرات، وفقاً لحساباتهم، وبسرعة أيضاً، تم نقله إلى مستشفى بعينه، وإلى حجرة عمليات صغيرة، تم فيها تخديره ، وفتح رجال المخابرات الحقيبة، والتقطوا صوراً لكل ما تحويه من وثائق وتصميمات سرية، ثم أعيد إغلاقها بنفس الإحكام، قبل أن يستعيد وعيه ويطمئن أن الحقيبة مازالت مربوطة فى يده بإحكام ... ولأن المعلومات هى الركيزة الأساسية، التى تستند إليها أجهزة المخابرات، فقد راح كل جهاز مخابرات يبتكر وسائله لجمع المعلومات، وعلى رأس تلك الوسائل كان التجسًَّس ، كوسيلة سرية لجمع المعلومات من مصادرها، مما استتبع بالتالى عمليات زرع العملاء فى صفوف العدو ، وتجنيد من يمكن تجنيده من صفوفه، وهكذا ... ولكن تطوًَّر الأحداث ، فى بدايات ثلاثينيات القرن العشرين ، أدهش الكل بوسيلة غير متوًَّقعة، لجمع المعلومات ؛ففى تلك الفترة كان (أدولف هتلر) قد تولى مقاليد السلطة فى (ألمانيا) ، وبدأ مع حزبه النازى يضعون خطة سرية ؛لإعادة تكوين وتسليح الجيش النازى ،استعداداً لخرق معاهدة (فرساى)، التى أجبرت (ألمانيا) على توقيعها ، عقب هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى ، وكان الفوهلر يحلم بغزو العالم كله ، ورفع العلم النازى على كل قاراته، ولكن، وبينما يستعدون لهذا، فوجئوا بكتاب أصدره صحفى سويسرى، يدعى (برتولد جاكوب)، ينشر كتاباً ، يشرح تفاصيل الجيش النازى، ووحداته، وفصائله، وأماكن تمركزها، وأسماء ضباط وقادة أولويته وكتائبه ... وأصيب (هتلر) بالذهول، واشتعل غضبه، وطلب من مخابراته إحضار ذلك الصحفى من (سويسرا) ، بأية وسيلة كانت ؛ لمعرفة كيف حصل على تلك المعلومات ... وبالفعل ، تم اختطاف (جاكوب) ، ونقله بطائرة خاصة إلى (برلين) ، حيث فوجئ بنفسه فى قبو مقر (الجستابو) ، وزبانية جهاز الرعب النازى يسألونه ، عن كيفية حصوله على المعلومات ... وكانت المفاجأة ... فذلك الصحفى السويسرى لم تكن له أية صلة بأى جهاز مخابرات، وإنما حصل على كل تلك المعلومات ، من الصحف الألمانية نفسها، ومن صفحات الوفيات بالتحديد ، ففى كل نعى عسكرى، كانت هناك عبارات مثل « الفصيلة رقم كذا، الكائنة فى (....) ، تنعى زوجة الجنرال فلان، قائد اللواء رقم كذا ، فى المنطقة (.....)»... وهكذا حصل الصحفى ، بشىء من الصبر وكثير من البحث والتنظيم، على كم هائل من المعلومات ، عن الجيش النازى، وبدأ فى ترتيبها وتنسيقها؛ ليضع بها كتابه، الذى تسبب فيما هو عليه ... وهكذا دخلت وسيلة جديدة، من وسائل جمع المعلومات ، إلى عالم المخابرات ، وابتكر فرع جديد ، تحت اسم (المعلومات العلنية) ، والذى يعتمد على جمع المعلومات من الصحف، والنشرات الدورية، والقرارات الاقتصادية، وغيرها من المعلومات المعلنة، والتى يطالعها الجميع بعيون عادية، وتطالعها أجهزة المخابرات بعيون استخباراتية ..والأهم أنه، ومنذ تلك الواقعة، لم يعد هناك نعى واحد لأحد العسكريين، يحوى أى تفاصيل، عن وحدته، أو موقعه، أو حتى رتبته، اللهم إلا بعد خروجه من الخدمة.