بقدر ما بدا أنه لا مفر أمام العرب والفلسطينيين من اللجوء إلى بدائل وخيارات أخرى غير المفاوضات المباشرة مع إسرائيل والتى تأكدت عبثيتها، وحسبما اتضح فى نهاية عقدين من المفاوضات منذ مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو وحتى الآن.. بقدر ما بات ضروريا التراجع.. تكتيكيا عن القرار العربى باعتبار السلام خيارا استراتيجيا، ومن ثم سحب مبادرة السلام العربية التى جرى إقرارها فى قمة بيروت منذ عدة سنوات. إن استمرار طرح المبادرة العربية معلّقة دون رفض أو قبول، وحيث لم تلق تجاوبا إسرائيليا يتناسب مع قدرها وأهميتها، إنما يعد تنازلا عربيا فادحا ومجانيا، وفى نفس الوقت فإن التمسك بالسلام- خيارا استراتيجيا- صار جريا نحو سراب وأوهام، بل إنه يعكس ضعفا عربيا فى مواجهة إسرائيل بدا معه العرب متسولين للسلام وللحقوق الفلسطينية. لقد سقط خيار المفاوضات المباشرة بعد أن تأكد أن حكومة نتنياهو كسابقاتها من الحكومات الإسرائيلية تراهن على استغلال واستمرار تلك المفاوضات العبثية فى إضاعة الوقت إلى أبعد أجل ممكن ريثما تنتهى من ابتلاع ما تخطط لابتلاعه من أراضى الضفة، ومن ثم فإن مسلسل المفاوضات الذى بدأ منذ عشرين سنة، كان وسيظل الغطاء الذى تتخفى خلفه إسرائيل لتنفيذ كامل مخططاتها الصهيونية الاستيطانية بما فى ذلك تهويد مدينة القدس. ولذا فإن سياسة الاستيطان مستمرة ولن تتوقف.. بل تتزايد سواء استمرت المفاوضات أو توقفت مثلما لم تتوقف الجرائم والانتهاكات ضد شعب محتل بالمخالفة لكل المواثيق والاتفاقيات الدولية من مداهمات وهدم منازل واعتقالات واغتيالات، وأخيرا تسميم جذور أشجار الزيتون واعتداءات المستوطنين على المزارعين الفلسطينيين لمنعهم من جنى محصول الزيتون! ومما يعد مدعاة للدهشة أنه بعد كل تلك السنوات من المفاوضات وبعد كل الاتفاقات التى لم تلتزم إسرائيل بحرف واحد منها.. مازال العرب والفلسطينيون آملين فى التوصل إلى تسوية سلمية من خلال هذه المفاوضات العبثية. إن الحقيقة الواضحة التى يغفلها أو يتغافل عنها العرب هى أن السياسة التى تنتهجها إسرائيل إزاء الصراع وتحديدا على المسار الفلسطينى.. تستبعد تماما خيار السلام.. بل على العكس فإن ممارستها تؤكد تمسكها بالخيار العسكرى الذى تستخدمه كقوة احتلال.. بل إنها تستبعد أيضا إلى أجل غير مسمى- التوصل إلى تسوية سلمية لإقامة الدولة الفلسطينية سواء داخل حدود 1967 أو حتى ما تبقى منها بعد كل ما ابتلعته المستوطنات ولا تزال من أراض فى الضفة والقدس. وفى نفس الوقت فإن إسرائيل فى إدارتها للصراع نجحت ولا تزال ناجحة فى الرهان على أن الزمن فى صالحها وفى غير صالح الفلسطينيين، إذ أنها تراهن أيضا على غيبة موقف عربى وموحد وبالتالى استراتيجية عربية فلسطينية لإدارة الصراع فى ظل حالة من الوهن المزمن والذى لا يجد معه العرب والفلسطينيون بديلا عن الرهان على مفاوضات دون سقف زمنى محدد، وهو رهان فى حقيقة الأمر على سراب، وخداع للذات لتبرير العجز عن المواجهة الحاسمة واللجوء إلى خيارات وبدائل.. لا يتحمل الكثيرون تكلفتها وتداعياتها. وفى حين يرفض نتنياهو تجديد قرار تجميد بناء المستوطنات لمدة شهرين فقط استجابة لمطلب الرئيس الأمريكى باراك أوباما حتى يتم استنئاف المفاوضات، مع ملاحظة أن مدة الشهرين هذه لن تكون بأى حال كافية لإحراز تقدم ملموس أو محتمل فى المفاوضات، ومع ملاحظة أيضا أن التجميد المؤقت إنما يعنى استئناف الاستيطان، فإن هذا الرفض يكشف عن نية إسرائيل وسياستها الرامية إلى تغيير الواقع الجغرافى والسكانى (الديمجرافى) لما تبقى من أراض فلسطينية فى الضفة ضمن حدود 1967. ثم حين يحدد نتنياهو شروطا مسبقة قبل التوصل إلى حل نهائى أولها وأخطرها الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية أى دولة دينية عنصرية.. خروجا على إجماع المجتمع الدولى، وهو الأمر الذى يعنى طرد عرب (48) إلى الضفة والأردن وفقا لمخططات صهيونية قديمة، وثانيها التخلى عن حق عودة اللاجئين، وثالثها التنازل عن القدس.. بل إنه فى حالة قيام الدولة الفلسطينية فإنها ستكون منزوعة السلاح منقوصة السيادة.. بحرا وجوا ذات حدود مؤقتة.. تحوطها قوات عسكرية إسرائيلية بدعوى ضمان عدم تهريب الأسلحة إليها. حين يرفض نتنياهو التخلى عن سياسة الاستيطان، وحين يطرح تلك الشروط المسبّقة المجحفة، فإنه يؤكد ما أفصح عنه وزير خارجيته العنصرى ليبرمان، من أن المفاوضات مع الفلسطينيين سوف تستمر عقودا دون التوصل إلى حل، وهو الأمر الذى يدفع الجانب الفلسطينى دفعا إلى وقف المفاوضات، لتواصل إسرائيل الادعاء بمسئولية الفلسطينيين عن فشلها وأنهم الطرف الذى لا يريد السلام! وفى هذا السياق، وبعد أن بدا مؤكدا أنه لا نهاية لما تسمى بعملية التسوية السلمية، والتى كانت فى الحقيقة تسمية غير دقيقة وغير صحيحة.. بل خاطئة بقدر خطأ الانزلاق إلى فخ المفاوضات العبثية والاستمرار فيها دون تحديد سقف زمنى لنهايتها ودون الالتزام بمرجعيات هذه العملية، فقد بات ضروريا العودة إلى التسمية الصحيحة وهى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى العسكرى للأراضى الفلسطينية التى جرى احتلالها بالقوة فى يونيو عام 1967.. تنفيذا لمقررات الشرعية الدولية.. بداية من قرار مجلس الأمن رقم (242) وما تلاه من اتفاقيات ومرجعيات منذ مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو.. وصولا إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة غير المنقوصة.. وفقا لقرار التقسيم الصادر عن الأممالمتحدة عام 1947 مع حق اللاجئين فى العودة. وفى هذا السياق أيضا، فإنه يتعيّن بالضرورة عقد قمة عربية طارئة وعاجلة لإقرار استراتيجية جديدة ومحددة المعالم لإدارة الصراع العربى الإسرائيلى برؤية مختلفة، تستند إلى كل ما يملكه العرب من أدوات وأوراق ضغط، ترتكز علىكل ما هو مطروح من خيارات وبدائل لتلك المفاوضات العبثية.. سبيلا إلى حل عادل للقضية الفلسطينية التى كانت ومازالت لب ذلك الصراع والذى لن ينتهى إلا بإقامة الدولة الفلسطينية. وإذا كان اللجوء إلى مجلس الأمن أحد وأول البدائل المطروحة، إلا أنه سوف يصطدم ب «الفيتو» الأمريكى، وإن كان لا مانع تكتيكيا من خوض التجربة، ثم الانتقال إلى البديل الثانى والأقوى وعرض القضية برمتها، أو بالأحرى إعادتها إلى الأممالمتحدة صاحبة قرار التقسيم والمرجعية الدولية الأعلى، ومطالبتها بتنفيذ التقسيم وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، وفى نفس الوقت فإنه يمكن خلال تداول القضية فى المنظمة الدولية طرح البديل الذى اقترحه أبو مازن رئيس السلطة مؤخرا بوضع الأراضى الفلسطينية تحت الوصاية الدولية لحين إقامة الدولة وحصولها على اعتراف المجتمع الدولى. وفى كل الأحوال ومع أى من تلك البدائل والخيارات، فإن وقف التفاوض مع إسرائيل هو الخيار الصحيح والصائب للخروج من الحلقة المفرغة التى يدور فيها العرب والفلسطينيون طوال عشرين سنة. ويبقى قبل تلك البدائل حق المقاومة المسلحة المشروعة ضد الاحتلال.. بديلا وخيارا أصيلا للشعب الفلسطينى آجلا أو عاجلا.. ورهنا بتغير الأوضاع العربية والإقليمية والدولية. أما الموقف الأمريكى المتخاذل.. متمثلا فى تراجع الرئيس باراك أوباما عن كل وعوده التى أعلنها فى القاهرة قبل أكثر من عام.. فله حديث آخر.