«لماذا ينتصر الشر، فقط لأنه يحتاج إلى الخيرين الذين لا يقومون بأي شيء» هكذا يبرر المفكر إدموند بوركي لم ينجح الشر في صد الخير وهزمه. يسيطر الشر على السينما حتى يكاد يعتقد المرء أن السينما هي الشر نفسه وشر مطلق وأنها ناشرة للشرور والأثام.. كيف تعاملت السينما مع موضوع الشر؟ وكيف تمثلته؟ وهل تسكن بعض المخرجين أرواح الشر من خلال الشخوص والأمكنة التي يقدمونها؟ وكيف يتلذذ المشاهد/ المتلقي بسينما الشر كموضوع مركزي في السينما مستغلا هذه الأخيرة للمخيال الشعبي؟ ولماذا يكاد يتفق المؤلفون والمنتجون والمخرجون على أن سينما الشر موضوع مربح في شبابيك التذاكر؟ في الفيلم الأخير للمخرج الإسباني رامون ترمين «الشر الذي يقوم به الرجال» (2016/ 94 دقيقة / بطولة دانييل فرلدو، أندرو تاريت) يضعنا في صلب الصراع الأبدي بين الخير والشر من خلال قصة قاتل محترف وطبيب يشتغلان لحساب عصابة مخدرات ويتلقيان «حزمة» غير اعتيادية: ابنة رئيس العصابة المنافس وعليهما رعايتها حتى الحصول على الإذن النهائي، سواء بتقطيعها إربا إربا أو إطلاق سراحها.. لكن فرصتها الوحيدة للبقاء على قيد الحياة هي الوصول إلى عمق خاطفيها ومعرفة ما إذا كان لديهم وازع إنساني. هو فيلم للبحث في تعقيدات النفس البشرية وتركيباتها التي تقود للشر والخير في الوقت ذاته. وكيف يحدث هذا الانقلاب من فعل للشر إلى فعل للخير أو العكس من ذلك. لا يمكن أن ننفي أن الشر، في إشكالياته وتمثله داخل السينما أكثر شيوعا مثل الجحيم وشخصية الشيطان، يمارس ولايزال يمارس قوة قاهرة تكاد لا تنضب على المخيلة الجماعية للشعوب ولدى كل أتباع الديانات. وتركب السينما الشر بتوابل متعددة، سواء من خلال شخصيات عجائبية وأماكن فانتازية وبألبسة غريبة يستغل فيها الليل والظلمة والأصوات المرعبة ولهيب النيران المشتعلة، لتوحي بقدرة الشر على اختراق النفوس وتمكنه من الإنسان في حالات الضعف وضعف المعتقد لديه. يجمع مفهوم «الشر» الخصائص والمميزات «الشيطانية» للعالم الذي يدور بنا، حينما نعيد إبداعه من خلال المتخيل الجماعي للشعوب، مثل الرعب والخوف ونقول إننا منغمسون في جحيم حقيقي محكوم بالشر والآثام والسيئات التي لا تنتهي. مثل شيء خارجي ليس لنا القدرة على ردعه أو التصدي له أو محوه وفي الوقت ذاته فهذا المفهوم البوليمكي والمثير للجدل يأخذ معنى عميقا بارتباط مع المؤسسات الدينية: إن الشر يلج إلى الشخص/ الإنسان انطلاقا من الخارج . هذا الشر الذي يكون دائما قاهرا ومجلجلا وخارجيا متمثلا في جسد، شيء، عالم ، روح سقطت في براثن الشر، كما هي الحالة لأفلام الرعب والخوف والجزع التي لا تعد ولا تحصى حيث تحوز وتسيطر عليها «رمزية الشر» في أجوائها وأمكنتها وشخوصها ونفسياتها المعقدة. كما هي حالة الفيلم الشهير «اكزورسيست» (1973) للمخرج ويليام فردكين عن رواية بيتر بلاتي، فيلم يمكن أن يتحدد من خلاله مفهوم الشر الذي استطاع المؤلف أن يبيع منها 13 مليون نسخة واستطاع المخرج أن يثبت وجودا لسينما الشر ويمنحه أفقا سينمائيا وشهرة لا تنتهي وفنانا باستطاعته الغوص في تعقيدات الذات الإنسانية في أبعادها، من خلال مشهد المشعوذ (جين هاكمان) وهو يصرع الفتاة التي تسكنها الأرواح الشريرة وترتفع شيئا فشيئا وسط الغرفة، من دون أن ننسى فيلم «رضيع روزماري» (1968) للمخرج رومان بولانسكي مع أداء لا ينسى للممثلة ميا فاراو حيث في ليلة ونصف ليلة من الهلوسة والكوابيس يتم اغتصابها من طرف الشيطان نفسه ليعيد بعد ذلك «الضوء إلى الظل» المعروف بالمسيح. الفيلم أيضا معروف ب»بذور الشيطان» أو فيلم اللعنة، حيث فقد المخرج زوجته شارون تايت، التي كانت حاملا واشتركت في محفل شيطاني منظم من طرف عشيرة يقودها شارل موسون. هذا الطابع/الخاصية الخارجية المميزة للشر يمنح مكانا مخططا «لشيء ما» وهي المادة التي تصيب عن طريق العدوى. الشر في هذه الحالات لم ينتج من الحرية الإنسانية نحو الشر، بل على العكس ذلك ولكنه من قوى الشر نحو الإنسان. أكثر تعقيدا هو الفيلم الأرجنتيني المتميز والمثير للجدل، الذي تعرض للرقابة، وهو الفيلم الشهير على مدى عقود مضت ويتعلق الأمر بفيلم «الشياطين» (1971) للمخرج كين راسل، حول نص ألدوس هكسلي الذي ارتكز على أحداث واقعية في القرن السابع عشر الميلادي في دير (لدون) في فرنسا، حيث تملك بعض الراهبات مس شيطاني وما يصل من ذلك من عربدة وضوضاء وسهر مستمر إلى سكان المناطق المجاورة للدير. ويتعمق هذا الفهم مع فيلم «الجحيم» ( ماليفكا) ( 2014) للمخرج روبير ستروم بروك، من بطولة أنجلينا جوني، أيل فاشين، شارلوت كوبلي، وهو نسخة مجددة عن الفيلم الكلاسيكي «الجميلة النائمة» (1959) ويحكي الفيلم عن ثلاث جنيات يحاولن السيطرة على قلب الصغيرة أورورا ومحاولة رميها باللعنة. في أفلام كهذه تحضر مفاهيم اللعنة والأساليب السحرية مترجمة إلى فعل شر قوي يخترق الأرواح ويغير الأشكال الجسدية من إنسان إلى حيوان أو إلى مخلوقات عجائبية، كما هو الحال في السلسلة الشهيرة من أفلام هاري بوتر. وفي أفلام الشر نجد شخصية مركزية لا يكاد فيلم يخلو منها شخصية الساحر/ الساحرة وارتباطها القوي بالسحر والشعوذة رغبة منها في التملك والسيطرة. تعكس مقولة ألبير انشتاين «ليس العالم في خطر من شرور الناس، بل من أولئك الذين يحمون هذه الشرور» رؤية وتمثلا آخر للشر في السينما والأدب المعاصر، ذلك أن الشر لا يحتاج إلى سلالات ومخلوقات فانتازية وعجائبية أو فوق طبيعية، فما يتصل حقا بالشر، هو اكتشاف أن هذا الشر موجود داخل الإنسان، كما يقول مالكوم ماك ديويل في فيلم «البرتقالة الميكانيكية» ( 1971) للمخرج ستانلي كوبريك «نحن ولدنا من قبل قردة منتصبة وليس من ملائكة ساقطين، وهؤلاء القردة هم قتلة مسلحون». حينئذ نصل إلى نتيجة مفادها أن الخير مثل الشر، جاذبية الأشرار في السينما كما الأخيار، الجحيم مثل الجنة في الكوميديا الإلهية لدانتي، شخصية واسون مثل شخصية باتمان في فيلم المخرج كريستوفر نولان في فيلم «رجل الليل» (2008). يقودنا هذا الفيلم إلى فيلم آخر «الأسرى» (2014) للمخرج الكندي ذي الأصول المصرية أطوم إيغويان ومن بطولة ريان رينولدز، سكوت سيبدمان، ميريل أينوس. يحكي الفيلم عن الأب ماثيو الذي يفقد ابنته منذ ثمانية أعوام، وبعد زمن من الخوف والأمل يكتشف بعض الطرق المؤدية إلى أن ابنته لاتزال على قيد الحياة وأنها أكملت 17 ربيعا. ومع مساعدة مقدمة من قبل مخبرين يدخل في صراع ضد الساعة لاستعادة ابنته في شر محموم يحوم على الدوام. الشر هنا هو الآخر. وكما يقول منظر المذهب الوجودي جون بول سارتر أن «الأخر هو الجحيم» يقدم لنا المخرج الشهير لوك بوسون فيلم «الجحيم» (2013) من بطولة روبير دي نيرو، ميشيل فيفر، طوم لي جونسون، حيث تنتقل عائلة أمريكية مشهورة باشتغالها في عوالم المافيا إلى منطقة نورماندي الفرنسية تحت برنامج حماية الشهود الذي تقدمه وكالة المخابرات الأمريكية، تقوم العائلة بكل ما في وسعها لتتأقلم مع الحياة الجديدة، لكنها تصبح ملزمة بمواجهة الشر بالشر وبالعودة إلى أساليبها القديمة لإيجاد حل لمشاكلها العائلية. الفيلم مقتبس عن رواية (بادفاس). وفي الاتجاه نفسه يخلد الشر في أفلام المافيا والاستيلاء على السلطة والمال وتملك النساء الجميلات بين الطيب والعراب والشرير.. تقودنا هذه الأفلام وهذه الأسئلة لمعالجة مفهوم الشر داخل السينما، كوسيط بين الحياة والموت. وفي حقيقة هذا الشر كحالة لاستمرار شر مطلق ومطبق وتأكيدا على أن «أشرار السينما» ليس بمقدورهم تصور إمكانية أخرى غير الشر نفسه. وارتباطا بالمقولة الشهيرة أننا نفكر في الشر مئة مرة في اليوم ونفكر في الخير مرة واحدة في العام، لأن الشر يثير صعوبات وأحاسيس أخلاقية وفكرية في مشاعرنا.. ومن هنا جاء اكتشاف/ سبر التمثل الفني للجحيم مثل «مكان يسكنه الشر» مرتبطا بمفاهيم غيبية: مبدأ الأبدية (الخلود / الأزلية / البعث / القيامة / نهاية العالم) ومن ثم هذا الإجراء الممارس بمعنى النفي طيلة الزمن من الجنة وما يحيل إلى سقوط آدم وحواء منها. وكذلك يحيلنا إلى الجملة الشهيرة لدانتي: «هؤلاء الذين يدخلون، ويفقدون كل الأمل». هنا يمكن أن نتحدث عن الأفلام المرتبطة بالنازية والفاشية وعن معسكراتهما، حيث تبدو هذه القوة البدائية للشر، على أنها بيروقراطية وتافهة على حد تعبير الفيلسوفة حنة أرندت. بالمقابل لا يمكن نسيان الجحيم اليومي الذي تعرض له الفلسطينيون من قبل إسرائيل من إبادة وقتل وتدمير وتهجير رسخته السينما في العديد من الأفلام التي جسدت الشر الإسرائيلي كخيار مطلق للسلام. لكن حدثا لا يصدق وحقيقيا أن هنريش هيمللر، المخطط للمعسكرات النازية للإبادة ولهذه الصناعات القابلة للموت، حينما كان يود الدخول إلى منزله في أوقات متأخرة من الليل، يدخل بهدوء من الباب الخلفي حتى لا يوقظ عصفورته الصغيرة الموضوعة في القفص. بواسطة عملية يتداخل فيها الجسد والألم الناجم عن الشر وهو شيء ينبعث من الجسد، لذا فإن العديد من أفلام الشر هو تمديد طبيعي للخصائص الجسدية، ومن هنا فإن سينما الشر تعبير عن الشر الكامن في النفوس التي رمت هيروشيما وناكازكي بقنابل نووية من دون أن تعير انتباها كبيرا إلى أن من يسكنها أبناء آدم على الأرض الساقطون من ملكوت الفردوس. (القدس العربي )