أردت، فى طفولة مشاغبة، اختبار صدق قصة الغراب الذى أضاع مشيته الأولى، بعد فشله بتقليد مشية طائر «الشنار» - صاحب العرش الذهبى فى تراثنا البيئى والشعبى ورمز صمود الفلاح فى أرضه وملهم الشاعر فى تخيلاته - فكمنت فى مكان تأتيه عادة بعض الغربان، وما هى إلا دقائق حتى حط واحد منها، وراح يتلعثم فى مشية خرقاء، لا تقارب نغمات المشية الأنيقة للشنار، فبلعت ضحكتى الصاخبة؛ كى لا يطير، ويتركنى فى مهب السؤال. لم يأبه بى، وقد شعرت أنّه لمحنى وهو يغمس رأسه فى علبة معدنية صدئة، بدا أن فى قعرها قليلا من ماء المطر، دون استطاعته الوصول إليه، فما كان منه إلا أن التقط حجرا بمنقاره؛ وأسقطه فيها، ثم أتبعه بثانٍ وثالث ورابع، حتى رأيت بريق وجه الماء، قبل أن يشرب مطلقا نعقتين. تذكرت قصتى هذه بعد أن قرأت خبرا عن تغلب اليابانيين على أذى «الغربان» سيما فى نبش حاويات القمامة وبعثرتها. معظم الشعوب تتشاءم من الغربان ولونها ونعيقها، ربما لأن هذه الطيور كانت تجد مجدها فى ساحات الحروب ومواطن المجاعات؛ ولهذا صار الناس كلما رأوها تحوم فى لجة سماء يخافون حربا قد تلد تحتها!.. وباستغلال تكنولوجيا علوم الصوتيات والذكاء الاصطناعي حدد اليابانيون 40 جملة ذات معنى من نعقات الغربان، مثل «خطر.. اهربوا من هنا»، ولهذا عمدت «مدينة ياماجاتا» إلى وضع مكبرات صوت بجوار أماكن تجميع القمامة مثلا، لتطلق نعيقا يقول: «خطر.. خطر اهربوا»!. أتمنى لو أن العلم يكون قادرا على أن يفكك نعيق وهوس وشغف بعض غربان الحروب وجهابذتها وتجارها، وأن نرسلهم إلى مكان بعيد عن كوكبنا الأزرق بواسطة نعيق يحبونه ويتبعونه.. الحقوا ثمة حرب تتحمحم على بعد مجرتين، الحقوا بها ولا تعودوا.. والله من وراء القصد..