في السبعينات قام المخرج الأمريكي «فردكين» بإخراج فيلم بعنوان «طارد الأرواح» حقق نجاحا اسطوريا في جميع بلاد العالم، وأثار بعدها موجة من هذه النوعية من الأفلام استمرت سنوات طويلة.. قام بإخراجها مخرجون كبار ولعب أدوار البطولة فيها ممثلون مرموقون. فيلم «فردكين» كان مزيجا ناجحا وبارعا من أفلام الرعب والتشويق علي خلفية دينية وروحية تهدهد عواطف المتفرجين ، وتعزف علي وتر مؤكد النجاح.. حول وجود روح شريرة تتقمص بعض الأشخاص.. وتدفعهم إلي أفعال وأقوال تثير العجب والدهشة أحيانا والفزع والاضطراب أحيانا أخري.. ولكنها تصب جميعا في مفهوم «الشيطان» الذي لا يكف منذ الأزل عن السطو علي أرواح البشر وإبعادهم عن الحق والدين والفضيلة. محاربة الشيطان «طارد الأرواح» هو هذا الرجل المكلف بمحاربة هذا الشيطان وإخراجه من الجسد الذي تقمص فيه واللافت للنظر .. أن هذا التصور ليس مقصورا علي اتباع الدين المسيحي.. وإنما يتسلل أيضا إلي جميع النفوس مهما كان دينها .. ومهما كانت عقيدتها المهم أنها تؤمن بوجود عالم آخر. وقوة سماوية يتصارع الخير مع الشر فيها. وهكذا نري مثلا في ريفنا العربي .. طقسا خاصا نطلق عليه اسم «الزار» ويقوم علي إجراء رقصات وأدعية وإطلاق بخور ودوران لا ينتهي مع إنشاد أبيات من الشعر لتخليص «الضحية» من الشيطان الذي لبسها.. والغريب في الأمر .. أن جموعا كثيرة من المثقفين والمتعلمين يؤمنون بهذا الطقس ويمارسونه إذا شعروا أن مساً قد أصابهم أو أن روحاً شريرة تملكتهم. الرعب والخرافة هذه النوعية من الأفلام إذن لها جمهورها ولها روادها .. ولها من يؤمن بها إيمانا حقيقيا .. ولها أيضا «معجبون» يرون فيها مجرد أفلام تجمع بين الرعب والخرافة.. يشهدونها بتلذذ حتي لو لم يكونوا مؤمنين بما جاء فيها. وها هو طقس إخراج الشيطان من الأجساد التي ركبها .. يأتينا من جديد في فيلما أمريكيا مشوقا صنع من خلال سينما جيدة الصنع .. ومن خلال أداء مبهر لممثل كبير طال شوقنا إليه هو «انطوني هوبكنز» الذي يعود إلينا بدور مدهش.. يجعلنا نصدق ما لا يمكن تصديقه بل يجعلنا نؤمن بما لا يقبله منطقنا ولا عقولنا. «الطقس» وهو اسم هذا الفيلم الجديد الذي يعالج هذا الموضوع الشائك .. يدور حول فتي يلعب دوره الممثل الشاب «توم جونس» ابن حانوتي يغسل الموتي ويهيئهم للدفن. يتم دراسة اللاهوت .. ويقرر أن يصبح «قسا» ولكن هناك ترددا كبيرا في أعماقه وشيئا من الشك يساور إيمانه مما يجعله مترددا في امتهان هذه المهنة الروحية الصعبة. ولكنه لا يقاوم عرضا جاءه بالسفر إلي روما.. للتدرب علي مهنته وممارستها.. ومتابعة ظاهرة انتشرت أخيرا بين صفوف المؤمنين وهي ظاهرة تلبس الشيطان لأرواح بعضهم والطريقة الدينية التي يلجأ إليها الرهبان لإخراجه من الجسد الضحية. الفيلم كما تقول مقدمته مأخوذ عن أحداث واقعية حدثت في إيطاليا وفي أمريكا وفي كثير من بقع العالم الأخري.. بل إن الفيلم يزيد أيضا في الشرح.. فيقول إن الراهب الذي يروي الفيلم قصته قد استطاع شفاء آلاف الحالات في إيطاليا.. كما أن رهبانا أمريكيين عالجوا حالات مماثلة يفوق عددها عشرات الآلاف ..!! إذن راهبنا الشاب .. يصل إلي روما .. حاملا شكوكه كلها ومقررا في قرارة نفسه أن يترك مهنة الرهبنة لعدم تمكنه من الوصول إلي إيمان مطلق وحقيقي .. ولكنه يضطر مراعاة لظروف بعثته أن يذهب لمقابلة هذا الراهب الشهير الذي تخصص في مطاردة الأرواح الشريرة وإخراجها من أجساد المساكين .. التي سكنت بها. مهارة فائقة ومنذ اللحظة الأولي .. يقدم لنا الفيلم هذا الراهب «الذي يلعب دوره بمهارة عالية انطوني هوبكنز» الذي يعيش في قرية منعزلة وفي منزل شبه مهجور .. تجري فيه القطط .. ويزينه صليب كبير من الداخل.. والذي يكشف منذ اللحظات الأولي شخصية الراهب الصغير «مايكل» الذي جاء إلي زيارته والشكوك التي تعتمل في قلبه.. ولكنه مع ذلك يشركه في محاولته إخراج الشيطان من جسد فلاحة صغيرة حامل ولا يقتنع «مايكل» بما يري ويخبر الراهب أن المسكينة مريضة نفسيا وتتخيل وجود أصوات تكلمها .. ونوبات هيستيرية تصيبها .. والفيلم يقدم لنا هذه المشاهد وكأنه يقدم مشاهد رعب حقيقية .. من جحوظ للعين .. واصفرار في الوجه ورعشات في الجسد.. وصرخات هيستيرية ومحاولة الراهب العجوز الإمساك بهذا الشيطان الكامن ودفعه للاعتراف باسمه «لأن هذا الاعتراف يخرجه من دائرة الظل إلي بقعة النور وبذلك يمكن التخلص منه». مس من الجنون وبالطبع .. لا يصدق مايكل ما يري .. ويصارح بشكوكه صحفية أمريكية جاءت هي أيضا إلي روما.. لتتابع هذه الظاهرة التي انتشرت كثيرا هذه الأيام.. وتخبره أن سبب اهتمامها بذلك .. هو أن أخاها الصغير قد أصابه مس من الجنون .. وأودع مصح عقلي مع أنه كان يبدي ظواهر كثيرة .. تدل علي أن روحا شريرة تقمصته وهذا هو سبب اهتمامها بهذا الموضوع.. ومحاولة كشف اسراره. ويسير بنا الفيلم رويدا رويدا .. لنري كيف بدأت قناعات ومنطق مايكل تهتز من خلال الوقائع التي تجري أمامه، موت الفلاحة الحامل.. وظهور حالة جديدة عند طفل يتنبأ بموت والد مايكل.. ثم محادثة مايكل لأبيه واكتشافه أن أباه قد مات قبل ذلك وأنه يحدثه من العالم الآخر، وظواهر أخري كثيرة تبدأ بإبعاد الشكوك عن نفس مايكل وتقوده إلي الاقتناع بأن هناك «شيطانا» يتقمص روح البشر .. ويعذبهم .. وتزداد الأمور سوءاً عندما يتقمص هذا الشيطان جسد الراهب العجوز.. في مشاهد رائعة يجعلنا أداء «انطوني هوبكنز» نتقبلها بسهولة رغم بعدها تماما عن التصديق مما يضطر الراهب الشاب «مايكل» أن يؤدي دور طارد الأراوح .. بمساعدة الصحفية المتشككة هي أيضا.. والتي جاءت الأحداث كلها لتقنعها بأن الشيطان موجود فعلا.. وأنه قادر علي أن يتقمص الأرواح المسكينة.. وأن أياً منا مؤهل لأن يكون في يوم ما فريسة للشر والشيطان. لا أعرف ماذا يمكن أن يقال في مثل هذه الأفلام التي تؤكد هذه الظواهر الروحانية التي تعتمد علي خرافات الشيطان والملائكة .. وقهر الشياطين بالتعاويذ والصلوات وتقمص الأرواح الشريرة لبعض الحيوانات .. وتأثيرها الذي يصل إلي درجة الإعجاز والمعجزة أحيانا. من المعروف أن هناك أشياء يؤمن بها القلب ولا يصدقها العقل .. ولكن فيما يتعلق بقضايا الدين والروح .. فهناك تهيؤ لقبولها بالقلب والنفس.. ولا مجال لإدخال العقل والمنطق في تفسيرها. فهر الشياطين في فيلم «انطوني هوبكنز» هذا يقهر الراهب العجوز شياطينه بالصلوات المسيحية والأدعية الإنجيلية .. كما يقهر بعض صناع الزار شياطيننا بالأدعية الإسلامية.. ولا أدري إذا كان الرهبان البوذيون يقهرون شياطينهم بالأدعية البوزية.. ويبدو أن هؤلاء الشياطين قادرون علي فهم لغات الأرض كلها. علي كل حال لندع معتقداتنا وعقولنا جانبا ولننظر إلي هذا الفيلم من وجهة نظر سينمائية بحتة .. فنقول إن مخرجه الشاب قد عرف كيف يمزج خيوطه بمهارة.. وكيف يستغل جمال الأديرة الإيطالية وقراها .. وكنائسها الكبيرة الجليلة. كما عرف كيف يختار نجمه الأول ليجعلنا «نبلع» بسهولة هذه الحلوي المسمومة التي يقدمها لنا.. مركزا علي واقعيتها وعلي حدوثها .. مضيفا إلي عجائبها .. عجائب جديدة محذرا إيانا من اخطار شيطانية تتهددنا وناصحا إيانا بشكل غير مباشر أن نلجأ إلي أقرب دير .. أو أقرب حفلة زار .. في حال إذا احسسنا أن جسدا غريبا قد بدأ يتقمصنا .. وأن الشيطان يتربص بنا .. وما علينا في هذه الحالة إلا الصبر والدعاء.