لو عدنا إلي تاريخ الفتنة الطائفية في مصر لوجدنا أن حادثة الخانكة عام 1972 في عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات كانت من الشرارات الأولي لحدوث بما يسمي "نزاع ديني طائفي"، وقتها حاول بعض الأقباط تحويل منزلهم بالخانكة إلي كنيسة، مما أدي إلي مواجهات مع المسلمين، فأسرع البابا شنودة الثالث (بابا الأقباط الأرثوذكس) وأرسل وفدا كنسيا لإقامة الشعائر الكنسية في المنزل محل النزاع كنوع من التحدي للرئيس الراحل حيث كانت العلاقة متوترة بينهما آنذاك.. وانتهي الأمرُ بلجنة تقصِّي حقائق شكلها البرلمان برئاسة الدكتور جمال العطيفي، زارت أماكن الأحداث، والتقي شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ محمد الفحام والبابا شنودة الثالث، وأصدرت تقريرا في نهاية عملها استطاع احتواء الأزمة بسلام. لكن كما يبدو أن الأزمات توالت بشكل أو بآخر فجاءت أحداث الزاوية الحمراء عام 1981... وأحداث أزمة الكشح الأولي التي اندلعت علي خلفية قضية ثأر بين عائلة مسلمة وأخري قبطية ثم بعدها بعامين أحداث ما سُمي بقضية الكشح الثانية علي خلفية نزاع بين تاجر قبطي وآخر مسلم أسفرت عن مقتل 22 شخصاً. جاءت بعد ذلك قضية وفاء قسطنطين التي أسلمت فأقامت الدنيا ولم تُقعدها ثم تبعتها فتنة مُحرم بك التي كانت نتيجة مسرحية أقامها قلة من الشباب المسيحي الذي لم يتعلم كيفية احترام الأديان الأخري واعتبرها المسلمون إهانة لا تُغتفر... ومنذ ثلاثة أعوام وبالتحديد في مدينة إسنا التابعة لمحافظة قنا حدثت مشاجرة بين تاجر قبطي وسيدة منتقبة حاول دفعها لخلع النقاب لشكه في سرقتها لبضاعة من محله مما أحدث أزمة بين العائلتين.. أما في عام 2008 فقد شهدت قرية النزلة بمحافظة الفيوم مصادمات بسبب سيدة أشهرت إسلامها وتزوجت مسلما وأنجبت منه واستمرت المصادمات إلي أن تم إعادة السيدة لزوجها. وأخيرا جاء الدور علي نجع حمادي لتكتمل المأساة نتيجة استدراج بائع طيور قبطي لطفلة مسلمة واغتصابها ثم تصويرها علي الموبايل في محاولة ابتزازها فجاء الرد عبارة عن مذبحة يوم عيد الأقباط راح ضحيتها مسلمون ومسيحيون. مما لا شك فيه أن الفتنة الطائفية أصبحت مثل السوس الذي ينخر في هيكل الوطن وقلبه كما أنه محاولة خسيسة من أطراف خارجية عديدة لها مصلحة في تدمير كيان مصر أن تُدعمه بتصريحات وتوجهات ومحاولات لا تنتهي بإلقاء المزيد من الوقود لإبقاء النار مُشتعلة...فها نحن نري الكاردينال والتر كاسبر رئيس المجلس البابوي لوحدة المسيحيين في الفاتيكان يعرب عما أسماه بصدمته من الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في مصر ولم يذكر قداسته أن من بين القتلي في نجع حمادي شُرطياً مُسلماً أملي عليه واجبه حماية إخوانه المسيحيين يوم عيدهم مما ترتب عليه حرمان أطفاله من أبيهم باقي العمر ولكن عزاءهم الوحيد أنه مات شهيد الواجب الذي لا يفرق بين مسلم ومسيحي... كما اهتمت الصحف الإسرائيلية بالحادث وزعمت أنه نتاج التوتر السائد بين المسلمين الذين يشكلون 90% من السكان في مصر والمسيحيين الأقلية (بالطبع العزف علي الوتر الحساس هو من شيم أولاد العم!!) وخرجت صحيفة الجارديان البريطانية تُرجع أسباب التوتر الطائفي في مصر في الفترة الأخيرة إلي فشل سياسة النظام الحاكم علي حد قولها. للأسف لقد سمحنا لهذا وذاك بالتدخل في شئوننا الخاصة، خاصة أن التصريحات السالف ذكرها ليست إلا محاولة شماتة خالصة نابعة من دول حاقدة تسعي لزعزعة استقرار أمن مصر الداخلي فحيث أن الخلخلة لأي كيان يأتي دائما من الداخل ثم ينتشر ليصل إلي الخارج ويسقطه فهذه هي الخُطة التي يحاول بها الجميع إسقاط مصر... دعونا لا ننسي الحرب الأهلية في لبنان التي دامت لأكثر من 16 عاما وكيف اندلعت شرارتها الأولي بسبب صراع سياسي سيطرت فيه أنماط من الثقافة والفكر والصراع الطائفي بين أبناء الوطن الواحد مما أدي في النهاية إلي انقسام البلد إلي بلدين والشعب إلي جيشين فجاء تدخل أطراف خارجية عديدة نتيجة حتمية للتمزق ومحاولات مستميتة من إسرائيل لوضع قدم أخري لها داخل المنطقة العربية ومؤامرات من سوريا للتدخل في شئون الدولة الشقيقة حتي أصبحت لبنان مقسمة حيث الجنوب وغرب بيروت تحت سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية والميليشيات المسلمة بينما كانت بيروتالشرقية والقسم المسيحي من جبل لبنان تحت سيطرة الميليشيات المسيحية... لقد دفع أبناؤها الثمن وبكوها لأن أيديهم هي التي تسببت في زرع الحقد وجني الألم وارتكاب المعاصي فأصبحت عروس المنطقة العربية عجوزا اكتوت بنار الحزن والدمار وتحولت شوارعها الجميلة وجبالها المكتسية بالخضرة إلي أنقاض وتراب وأسوار متهدمة، فرقتهم العقائد والطائفية وجمعهم فقط صوت فيروز الحزين وهي تشدو لبيروت الجريحة. إن كل مواطن قبل أن يكون مسلما أو مسيحيا هو دون شك مصري ارتوي من النيل وعاش علي أرض وطن يدين له بالولاء حتي في أحلك الظروف... لو عدنا إلي كل الأحداث الطائفية التي سبق ذكرها لوجدناها قد بدأت بأحداث فردية... فإسلام وفاء قسطنطين هو حرية شخصية وخروج قلة من المسيحيين بمسرحية يتصيدون فيها أخطاء دين لا يعلمون عنه الكثير ليس سوي جهل فئة لا يصح الالتفات إليها، لقد علمنا رسولنا الكريم احترام الأديان الأخري وأكد علي تسامحه مع الجميع حتي لو كان اليهودي الذي كان يلقي بالقمامة أمام منزله ولما غاب يوما ذهب ليسأل عنه فربما كان مريضا، هكذا هو منهاج رسولنا الجميل الذي اتخذناه سنتنا. أما السيد المسيح فكانت رسالته إلي العالم هي رسالة تسامح وسلام أليس هو من قال: "من ضربك علي خدك الأيمن فحول له الأيسر" لم يكن هذا ضعفا ولا خنوعا كان فقط رسالة تسامح أراد أن يرسلها للعالم كله فيعلمها لأبناء ديانته من بعده. إن السلام والتسامح وعبادة الله والتمسك بعقائده هي رسالة كل الأديان السماوية جمعاء فمصدرها واحد وإن تعددت الرسل..أين إذن تعاليم الأديان وتسامحها؟!..دعونا ننزع فتيل الفتنة الطائفية ونحاول التمسك بمصريتنا ودعونا ننظر لحادث اعتداء مسيحي علي طفلة مسلمة علي أنه حادث اعتداء شاب مصري علي طفلة مصرية، أو إسلام فتاة مسيحية علي أنه تصرف فردي لا علاقة له بسيادة دين فوق الآخر...كما أنني أُطالب الإعلام المصري بالكف عن إشعال نار الفتنة عن طريق مانشيتات ساخنة وعناوين مُحرضة وبرامج توك شو مُستفزة ، فالصحافة والتليفزيون والإنترنت من أخطر وسائل احتواء الأزمات أو إشتعالها... ولتكن لبنان صورة محفورة في الأذهان كلما تداعت الأزمات.. أذكر جيدا أن جدتي كانت تروي لنا أن اليهود المصريين في مطلع القرن كانوا جيران وأخوة لهم عاشوا في كنف وطن واحد دون التطرق إلي الدين و(لكم دينكم ولي دين)... كما أن لي صديقة أطلعتني والدتها أن جارتها في الأقصر منذ حوالي ثلاثين عاما أو أكثر كانت سيدة مسيحية وكانت والدتها تُعاملها تماما مثل ابنتها فكحك العيد يصنعونه معا ويجتمعون علي مائدة الطعام مرة كل أسبوع في بيت واحدة منهم، يأكلون من صنع أيديهم معا حتي أن فستان العيد الصغير كان دائما هدية من أم صديقتها لها، واليوم لم تنقطع هذه الصداقة الجميلة ولم تنس يوما هذه الفتاة أن تلك الأسرة المسيحية هي رائحة طفولتها وذكري صباها. بالطبع هناك قلة حاقدة من الفئتين وقلة ثائرة من الجانبين وقلة أعماها الغضب الزائف عن رؤية الحقائق ولكن دعونا نبحث بيننا عن الكُثرة التي تنتمي لهذه الأرض الطيبة، التي شربت من مياه مصدرها واحد وأكلت من ثمار سُقيت بأيد واحدة سواء مسيحية أومسلمة فهي في النهاية مصرية.. دعونا نعود إلي الزمان الجميل الذي كان فيه التعصب لا للدين ولا للون... كان فقط للمكان... مصر!!