يصنع الرجال تاريخهم لكنهم لا يصنعونه كما يشتهون لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم بل في ظروف تنشأ مباشرة عن الماضي وتنبثق منه. وهذا التاريخ الذي يصنعه الرجال سواء كان بيدهم أو غير ذلك قد يكون سببا للنجاح وأحياناً يكون النجاح وليد اللحظة. فالنجاح هو الشعار الامريكي في الحياة وكل شخص يري النجاح من منظوره ولكن ما نجمع عليه وما يتفق عليه الجميع ان النجاح وفي اي مجال يبني علي عامل أساسي هو: القوة والعمل . وقد نجحت امريكا في هذا العامل مما جعلها تلقب بالامبراطورية العظمي فهي امبراطورية بنيت علي النجاح الاقتصادي والفكر والتطبيق اللذين عززا ذلك النجاح. الا أن قصة امبراطورية الثروة تحمل كمعظم قصص الامبراطوريات طابعا ملحميا حافلا بالانتصارات والهزائم . فحين جاء بوش الصغير إلي البيت الأبيض كان الرئيس السابق بيل كلينتون قد أعاد لأمريكا كثيراً من أكسير الحياة فتمكن من تسديد أكبر مديونية في التاريخ علي يد أفشل رؤساء أمريكا في العصر الحديث بوش الكبير الذي غرقت الولاياتالمتحدةالأمريكية في عهده في مديونية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً إلا علي يد ابنه. اما كلينتون فكان رئيساً ديموقراطياً كرس رئاسته ليس لترميم ما دمره الجمهوريون المحافظون وإنما لبناء أمريكا من جديد حيث انتعش كل شيء في عهده وعاد لأمريكا بريقها العالمي ولم يثنه عن ذلك حتي تلك الفضائح واللهو الذي صاحب فضيحة مونيكا أريد لها أن ولكنه رغم كل ذلك الخلل بالمبادئ والأخلاقيات فإنه ترك البيت الأبيض وقد وفر للرئيس الذي سيخلفه مبلغ أربعمائة وخمسين مليار دولار تقريباً فائضا في الميزانية . فجاء بوش الصغير في حربه المجنونة علي الارهاب في أفغانستان والعراق فانفق مايزيد عن ترليوني دولار إن لم تكن هذه الأرقام قد عملت أجهزته علي محاولة تقليلها. فالحرب كلفته مديونية ضخمة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً حتي في عهد والده . وإذا كان سقوط الإتحاد السوفييتي عام 1991ادي الي سقوط الشيوعية فإن هذه الضربة الإقتصادية التي تعرضت لها أمريكا قبيل شهرين من مغادرة بوش للبيت الأبيض وهو " كالبطة العرجاء " يبدو أنها قد أسقطت النظام الاقتصادي الرأسمالي الحر وربما إلي الأبد .. ويري المحللون أن نفقات الحرب الباهظة هي عامل هام أدي بالولاياتالمتحدة الي قصور القدرة في معالجة الأزمة المالية الحالية. وأشار السيد "يوسف ستيجليت" صاحب جائزة نوبل لعلم الاقتصاد وآخرون في كتاب " حرب تتكلف 3 تريليونات دولار امريكي " أشاروا الي أنه حتي نهاية العام المالي 2008 كانت الحكومة الامريكية قد رصدت 845 مليار دولار امريكي لخوض حربي العراق وأفغانستان، بما يتجاوز كثيرا نفقاتها في حرب فيتنام. لذا فان الازمة الحالية هي اخطر بكثير من ازمة عام 1990 فحسب تقديرات مكتب الميزانية للكونجرس الأمريكي، فإن اجمالي النفقات الامريكية في حربي العراق وأفغانستان سيصل الي ما يتراوح بين 1.2 و1.7 تريليون دولار امريكي حتي عام 2017 بينما يري يوسف ستيجليتز أن هذا الرقم يجب أن يكون 1.7 2.7 تريليون دولار امريكي. واتضح من العجز المالي البالغ 455 مليار دولار امريكي والذي أعلنته الحكومة الامريكية حديثا أن الولاياتالمتحدة غير قادرة علي انقاذ السوق المالي حقا. وأن الطريق المؤدي الي الانتعاش الاقتصادي الامريكي لن يكون قصيرا.فلو نظرنا تاريخيا إلي المؤشر البياني لبزوغ نجم الإمبراطورية الأمريكية فسنجد أنه ارتبط تاريخياً بضعف وانهيار القوة الأخري فهي أصبحت قوة اقتصادية عالمية بعد الحرب العالمية الأولي حيث استفادت من الضعف الاقتصادي والعسكري الذي سببته تلك الحرب للقوي العالمية الأخري كما أن اقتصادها قد انتعش بشكل كبير لأنها كانت خارج ساحة الحرب وتمول الدول المتحاربة .وتكرر الشيء نفسه في الحرب العالمية الثانية إذ لم تدخل الحرب فعلياً إلا وبانتهاء الحرب كان الكل منهكاً الرابح والخاسر إلا هي ؟!._ وعندما انتهت الحرب كانت الولاياتالمتحدة تمثل للجميع أرض الأحلام فهي بعيدة عن مسرح الصراع العالمي من جهة ومن جهة أخري افضل مكان تتوجه اليه الاستثمارات الخارجية نظرا لقوتها الاقتصادية بالنسبة لدول العالم الكبري التي خرجت مدمرة اقتصاديا بعد الحرب. وحينها كان المواطن الأمريكي يتمتع برفاهية لا تنافس ففي منتصف الأربعينيات أصبح دخل الفرد الأمريكي أعلي دخل في العالم بسبب الطفرة الاقتصادية التي حققتها أمريكا من جراء هجرة رؤوس الأموال إليها من كل مكان تقريباً فالمواطن الأمريكي آنذاك كان أكثر مواطني العام حيازة علي السيارات والهواتف ، حيث كان لديه 70% من سيارات العالم و70% من الطائرات المدنية وكان الفرد الأمريكي يصرف ستة أضعاف ما يصرفه الفرد في أوروبا وما بين عامي" 17801950 كانت هناك طفرة اقتصادية أمريكية إذ تضاعف نمو الاقتصاد الأمريكي 40 ضعفاً حيث أصبحت تنتج بعد الحرب العالمية الثانية50% من الإنتاج العالمي للسلع والخدمات وزاد احتياطي رأس المال لديها من 45 مليار دولار إلي أكثر895 مليار دولار وتضاعف ناتجها المحلي من 100 مليار دولار عام 1940 إلي 200 مليار دولار عام 1945 ، كما تضاعف عدد السكان من 40 مليون نسمة إلي 150 مليون نسمة وكان السبب الرئيسي في هذا النمو السكاني هجرة العقول العالمية ورأس المال إليها ._ ورغم كل ذلك إلا أن الخبراء الاستراتيجيين كانوا يقولون : إن هذه القوة الأمريكية تحمل داخلها بذور الضعف والانهيار وبينت تقارير كثيرة ومختلفة إلي أن الضعف قد أخذ يدبُّ في الإمبراطورية الأمريكية مع بداية السبعينيات حيث تحدثت مجموعة من الباحثين الأمريكان مثل ( بول كيندي وجيمس ديفدسون) وبينوا أن أمريكا تفتقر إلي الخبرة والحس التاريخي وستدفع ثمن ذلك علي المدي البعيد . وكان خطر الانهيار يشعر به أصحاب القرار الأمريكي وأول من جاهر بذلك هو الرئيس نيكسون عندما أعلن عام 1971 في خطاب له من البيت الأبيض قال فيه :هناك مشاكل كثيرة تواجه القوة الأمريكية كالبطالة وانخفاض إنتاج بعض الصناعات وتصاعد بعض التضخم وتراجع الدولار والعجز الخطير في ميزان المدفوعات ._ هذا التصريح دق أجراس الخطر وجعل الخبراء والباحثين الاستراتيجيين يدرسون الحالة الأمريكية ووضعوها تحت المجهر وبدأت دراسات كثيرة في هذا الجانب ومن الطريف أن يكون أول من تنبأ بالانهيار الأمريكي هو الزعيم الفرنسي ( شارل ديجول ) حينما قال : تريد الولاياتالمتحدة الوصول بالاتحاد السوفييتي إلي الخراب والإفلاس عن طريق سباق لا نهاية له في التسلح وقد تنجح في ذلك ولكنها سترهق نفسها كثيراً وقد يوصلها ذلك إلي حالة الإفلاس ._ هذه الحقائق الاقتصادية كلها المدعومة بالأرقام ، تجعلنا نقول : إن المسمار الأول في تجهيز نعش الإمبراطورية الأمريكية قد بدأ يدق ، وإن بوادر هذا الانهيار الاقتصادي أخذت تتضح أكثر فأكثر