ما يدور الآن من تفاعلات عنيفة متصاعدة علي الساحة الإقليمية في الشرق الأوسط، يحسم التصور الذي دار بسببه من قبل كثير من الجدل حول انقسام المنطقة والعالم إلي معسكرين متصارعين، وأن المواجهة بينهما يمكن أن تقود إلي حرب شاملة إقليمية أو دولية. واستخدام كلمة انقسام أو انشطار لا يعني تساوي الجانبين في العدد أو القوة أو النوع، ولكنه يعني أن درجة الاستقطاب بين الطرفين تسمح باندلاع شرارة كافية لإشعال الحرب في أي وقت. إنها معضلة الأمن الأبدية، التي تشتعل الحرب بسببها منذ بدء الخليقة، عندما يري ويدرك طرف معين أن عليه أن يسبق الطرف الآخر في اتخاذ قرار الحرب بسبب الشك في النوايا، أو انتهاز لفرصة مواتية ربما لن تعود. حديث بوش مثلا عن حرب عالمية ثالثة إذا امتلكت إيران السلاح النووي، وتهديد حزب الله بامتلاكه لسلاح سوف يقلب الموازين في الشرق الأوسط، والغارة الإسرائيلية علي موقع في شمال سوريا، وتجربة إيران لصاروخ باليستي بعيد المدي سوف تستخدمه قريبا في إطلاق قمر صناعي للفضاء، واغتيال عماد مغنية في دمشق، وأحداث غزة والغارات الإسرائيلية عليها، ثم تحريك المدمرة كول ووقوفها بالقرب من سواحل لبنان (وهي المدمرة التي حاولت القاعدة تدميرها بالقرب من سواحل اليمن)، ثم قرار مجلس الأمن الأخير بتوسيع نطاق العقوبات علي إيران؛ كل هذه الأشياء متراكمة فوق بعضها يمكن أن تُولد شرارة الحرب في أية لحظة بالقصد أو الخطأ. وأنا شخصيا أتصور بدون مبالغة وبدون معلومات محددة أن غرف العمليات في بلاد كثيرة لا تنام هذه الأيام. السؤال الأول من هم أطراف الحرب القادمة؟ وإرهاصات الإجابة علي هذا السؤال بدأت تضح مع انتهاء الحرب الباردة في نهاية السبعينات، واندلاع الثورة الإيرانية، وانسحاب روسيا من أفغانستان، وانتشار موجة المد الديني الإسلامي في الشرق الأوسط وفي أوروبا مصحوبا بموجة إرهاب عاتية في مصر والجزائر وباكستان وإفريقيا لم يعترف بها وقتها بأنها موجة عالمية إلا بعد 11 سبتمبر 2001. لم يعد هناك من يجرؤ الآن علي الفصل بين هذه الأحداث وبين هجوم 11 سبتمبر وما تلته من حروب ومواجهات حتي وقتنا الحالي. كل ذلك كان من تجليات مواجهة بين معسكرين وإن اختلفت التفاصيل والمسميات. لقد كان بن لادن سبّاقا في إدراك ما حدث عندما استخدم كلمة "فسطاطين" للتعبير عن المعسكرين المتحاربين ولوصف طبيعة المواجهة المقبلة بينهما وكان يراها عالمية، في حين اعتبرها البعض في البداية إقليمية أو محلية. وقد نجح بن لادن علي نار هادئة في نشر فلسفته وعملائه في شمال إفريقيا والشام والخليج وتركيا وأوروبا ووسط آسيا وشرقها. ولم تسلم قارة مثل استراليا وبلد مثل كندا من وجود خلايا موالية للقاعدة فيها. هناك بالفعل مواجهات عسكرية جارية بين المعسكرين، والاستقطاب بينهما واضح وضوح الشمس، والقتلي والجرحي من الطرفين يسقطون كل يوم. فما يجري في أفغانستان من حرب هو بالفعل بين فسطاطين. فطالبان في الحقيقة خليط من طيف واسع يصله المدد والمعلومات من شبكة معقدة لا تسمح له بالسقوط والهزيمة في الحرب. وفي المقابل نجد حلف الناتو في أفغانستان وهو أيضا خليط مكون من أمريكا وأوروبا بدرجات متفاوتة من الحضور والمشاركة. ونفس الشئ ينطبق علي مسرح القتال في العراق والصومال، وكذلك في حرب حزب الله مع إسرائيل في صيف 2006، وفي معركة نهر البارد، وما يجري حاليا في غزة، وفي أية حرب أخري قادمة. إجابة السؤال إذن عن من هم أطراف الحرب القادمة؟ لن تبتعد كثيرا عن المشاركين في المواجهات السابق ذكرها مع بعض الإضافة أو الحذف. وإذا أردنا التحديد فستكون المواجهة بين "المعسكر الغربي" ممثلا في الولاياتالمتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا وأمريكا وأستراليا بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية وكندا بالإضافة إلي دول الشرق الأوسط المعتدلة بما في ذلك إسرائيل. ولن تتردد دولة مثل الهند في تأييد الولاياتالمتحدة ودعمها إذا اندلعت الحرب. أما الطرف الآخر، "المعسكر المضاد"، فستقوده إيران ومعها دول مثل سوريا والسودان بدعم ومشاركة فعالة من ذلك الطيف الواسع من الجماعات الموالية لهم بدءا من تنظيم القاعدة إلي حزب الله وحماس والجهاد إلي مئات غيرها علي امتداد العالم. إذا كانت الحرب جارية بالفعل بين المعسكرين فما هو الجديد إذن في أية حرب قادمة؟ الجديد سيكون الانتقال إلي مستوي أعلي في المواجهة. إيران مثلا موجودة وراء الستار في المستوي الحالي للحرب لكنها ستكون هدفا مباشرا في الحرب القادمة. وربما يكون توجيه ضربة شاملة إلي إيران وقدراتها العسكرية هو الافتتاحية الرئيسية لتلك الحرب المتوقعة. وفي هذه الحالة ستعود استراتيجية "كولن باول" لتطرح نفسها من حيث التمسك بقوة النيران الهائلة، وحجم القوات غير المسبوق، والإصرار في السيطرة الكاملة علي المسارات البحرية الاستراتيجية بما في ذلك الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر والمتوسط، بما في ذلك تدمير كل وجود للعدو في تلك الممرات. وسوف يكون الوصول إلي بن لادن والظواهري والقيادات العليا للقاعدة هدفا من أهداف الحرب، كما سيتم تكثيف القوات في العراق وفي أفغانستان ومحاولة حسم الحرب فيهما. بالنسبة للمعسكر المضاد فستكون استراتيجيته قائمة علي تحويل المواجهة إلي حرب استنزاف طويلة وممتدة، مع القيام بمفاجآت عسكرية تقوم علي استخدام أسلحة الدمار الشامل الكيماوية أو البيولوجية، أو قد يفصح عن امتلاكه لأسلحة نووية تكتيكية يكون قد حصل عليها من دول الاتحاد السوفييتي السابق أو صنعها بنفسه. أو قد يجربها مباشرة في مكان معين للحصول علي ردع غامض مربك للطرف الآخر. الفوضي ستكون السلاح المفضل للمعسكر المضاد من خلال علاقاته المتشعبة علي المستوي الشعبي في دول الشرق الأوسط، ومع تحريضه علي ضرب المصالح الغربية داخل تلك البلاد. ولا أحد في الحقيقة يعرف علي وجه التحديد ما يجري تحت السطح في البلاد العربية والإسلامية، وما قد يعتريها من اختراقات وتحضيرات لنشر الفوضي والذعر والدمار إذا اندلعت الحرب. الصواريخ بكل أنواعها وبأعداد كبيرة سوف تستخدم بدون تمييز في أية حرب قادمة، ومن المعروف أن المعسكر المضاد لا يضع في حسابه كثيرا الخسائر البشرية حتي ولو وقعت بين جماهير ليس لها علاقة بالصراع أو حتي جماهير موالية له إذا اضطرته الظروف إلي ذلك. والسؤال الثالث عن من يبدأ الحرب؟ وكما هو معروف -وكما ذكرنا من قبل- فالحرب جارية بالفعل بين المعسكرين منذ سنوات، لكن الانتقال إلي مستوي أعلي في الحرب سوف يحتاج اتخاذ القرار فيه إلي المقارنة بين تكاليف الانتظار من جهة وتكاليف الدخول في حرب في تاريخ مبكر من جهة أخري. فقد يعطي الانتظار الطرف الآخر فرصة الحصول علي سلاح لم يكن متاحا له من قبل. كما أن التسرع قد يفقد الطرف البادئ بالحرب التأييد السياسي الإقليمي والعالمي ويعضد من تحالفات الطرف الآخر. ومنذ أحداث 11 سبتمبر _ وحتي قبلها - كانت المبادرة في يد المعسكر المضاد علي المستوي العسكري والسياسي والإعلامي، وكان رد الفعل من نصيب المعسكر الغربي. والنتيجة لم تكن في كل الأحوال متصفة بالحسم بل في توسيع رقعة المواجهة والعنف والفوضي وهو ما يريده المعسكر المضاد. ولذلك نجد أن كل الحروب التي بدأت لم تنته حتي الآن إلي نتيجة محددة كما نري في العراق وأفغانستان والصومال ولبنان، وسوف يضاف إليها مع الوقت حالات أخري جديدة. والأرجح هذه المرة أن يستغل الطرف الغربي حادثة مروعة من الطرف الآخر في صورة خطف أو اغتيالات أو تفجيرات ليأخذ المبادرة وينقض في تصعيد غير مسبوق علي نمط ما حدث في الحرب اللبنانية صيف 2006 آملا في نتيجة أفضل. أو هكذا ما أتصور في تلك المحاولة الذهنية عن طبيعة الحرب القادمة.