مع اقتراب ميعاد الاستفتاء المحدد في اتفاقية السلام بين شمال السودان وجنوبه, وما يمكن أن يحدث من توتر كلما اقترب الميعاد التاريخي والذي بموجبه سوف يتقرر مصير السودان كبلد واحد, سوف يشهد العالم والمنطقة العربية والإفريقية عملية تاريخية ديمقراطيه تجري تحت رقابة الأممالمتحدة والمجتمع الدولي لتحديد مصير الجنوب إما بالانقسام أو البقاء كجزء من السودان الكبير. وقد لفتت نظري تصريحات السيد وزير الخارجية أحمد أبو الغيط الأخيرة الهادئة والرصينة أن مصر تنظر إلي الاستفتاء ونتيجته بشكل عقلاني وهادئ, سواء كانت نتيجته الانفصال بين الجنوب والشمال, أو الاستمرار في حالة الوحدة. وحقيقة الأمر أن ما يجري في السودان الآن يطرح تجربة انفصال داخل دولة عربية كبيرة في عملية لم يعتد عليها رجل الشارع حيث تأتي عكس تمنياته وآماله في وحدة عربية شاملة منذ أن نادي بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وهناك تيار سائد يفسر ما يجري في السودان من منظور تآمري يهدف إلي تفتيت الدول العربية وتجزئتها إلي دويلات صغيرة لإخضاعها والسيطرة عليها بواسطة الدول الغربية وإسرائيل. والمؤيدون لهذا المنطق يرون في تجربة العراق والصومال حالات صارخة كان للغرب فيها دور رئيسي, وأن هذا المخطط سوف يستمر ولن يتوقف حتي يفتت الدول العربية كلها إلي دويلات متصارعة وضعيفة. وقد يبدو في هذا المنطق بعض الصواب, لكنه لا يفسر كل تفاصيل التجربة العربية في الوحدة والانفصال, ومعظمها كان مأساويا أو هزليا, فقد فشلت هذه التجارب في ترجمة آمال الجماهير في الوحدة الشاملة بمعناها الحقيقي. ولعل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا بكل تفاصيلها المعروفة حتي حدوث الانفصال قد عكست الفقر الفكري العربي في فن صياغة الوحدة, كما أثبتت أن الطريق إلي الوحدة لا يتحقق بالشعارات والقهر والسيطرة بل أن الطريق إليها لا بد وأن يمر في مسار ديموقراطي حر علي كل المستويات من رجل الشارع إلي رئيس الدولة. والتجربة المصرية السورية لم تكن الوحيدة, فقد كانت هناك تجارب وحدوية أخري لم تعش بأكثر من زمن التوقيع علي الأوراق الرسمية, ثم ضاعت بعدها ونسيها الناس واختفت في غياهب التاريخ. ومع ذلك هناك تجارب وحدوية معقولة ومتأنية في منطقة الخليج, لكن مازال يسيطر عليها المنطق القبلي والعائلي. ولحسن الحظ أن التجربة الخليجية تتطور في إطار مرن يتميز بالرشد والتفاعل المستمر مع العالم الخارجي المتطور. وعلي نفس النمط نلحظ أن المغرب العربي يتطور في مجال التعامل مع الأقليات العرقية والدينية, فقد اكتشفت دول المغرب أنه لن يمكنها الاندماج في التجربة الأوروبية وهي تمارس اضطهاد الأقليات أو تتجاهل لغتهم ووجودهم. ومن ينظر إلي التجربة الأوروبية يري أنها كانت ترحب بالانقسام في بعض الحالات إذا كان ذلك ضروريا كما حدث في انقسام دولة تشيكوسلوفاكيا إلي دولتين أصبحتا الآن عضوين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وتعكس تجربة الاتحاد الأوروبي بوضوح مفهوم' الانقسام من أجل الوحدة' الداعم في جوهره لحاجة الأقليات إلي هويتها من جهة, والمتطلعة في نفس الوقت إلي العيش تحت مظلة واسعة تضمن لها الأمن والتقدم من جهة أخري. وبطبيعة الحال لا يمكن مقارنة ظروف جنوب السودان بما جري ويجري في أوروبا, لكن الأرجح أن خيار الجنوب من خلال الاستفتاء لن يكون البقاء تحت مظلة الحكم الحالي في الخرطوم. وحتي لو أدي الاستفتاء إلي الوحدة سوف يصر جنوب السودان علي تدعيم هويته العرقية والدينية وتقوية علاقاته مع الغرب. وأمام السودانيين جنوبا وشمالا تحديات كثيرة برغم وجود اتفاقية سلام شاملة بينهما. فهناك خوف يعتري الشمال بأن انفصال الجنوب سوف يتلوه انفصال آخر في مناطق أخري خاصة إذا ضعفت قبضة الشمال أمام المد الجنوبي والضغط الدولي. كذلك قلق حكومة الشمال من فقد مصادر النفط في الجنوب وخاصة في منطقة أبيي. ويضاف إلي ذلك نزاعات أخري في عدد من المناطق المتنازع عليها عند النيل الأزرق وعند جبال النوبة وجنوب كردفان. ويضاف إلي ما سبق مشكلة هوية الشماليين المقيمين في الجنوب, والجنوبيين الموجودين في الشمال, وهي معضلة صعبة تحتاج إلي حل في المستقبل. كما تعكس أن المشكلة لم تكن في رجل الشارع, لكنها نتجت من قصور في حكومة الخرطوم التي تعاملت مع شعب السودان بطريقة تمييزية في مجالات الدين والتنمية. وفي حالتي خيار الانفصال أو الوحدة, سوف يحتاج الجنوب إلي تدريب, وتعليم, وتنمية, وتطوير في بنيته التحتية, وكذلك مساندة في مجال تحقيق الأمن بعد عقود عديدة من الحرب الأهلية. ومن المؤكد أن الاستفتاء ومهما كانت نتيجته لن يكون نهاية العلاقة بين الشمال والجنوب ولن يتوقف التفكير المشترك بينهما. وفي حالة الانفصال يجب أن يكون الحوار بينهما أكثر عمقا وجدية لتحديد جوانب التعاون المشتركة وسيناريوهات بناء الثقة الدائمة. فلو حدث أن نتيجة الاستفتاء سوف تؤدي استقلال الجنوب, فما هو معني الاستقلال في هذه الحالة؟ وسوف يطرح علي الجانبين ومعهم المجتمع الدولي أسئلة لابد من الإجابة عليها, من بينها كيفية التعامل مع ديون السودان؟ ومن يتولي دفعها؟ وكيفية التعامل مع الاتفاقيات الدولية؟ وما تمتلكه الدولة المركزية من ثروات وقدرات بما في ذلك النفط, وكيفية توزيع ذلك في المستقبل. ولمصلحة الجميع لابد أن يكون الاستفتاء القادم حرا وعادلا, لأن نتيجته سوف تؤسس لسودان ديموقراطي في المستقبل. وسوف تكون هناك حاجة ماسة للمساعدة الدولية, كما أن مراقبة هذه الانتخابات يجب أن تكون بأفراد علي درجة عالية من الحياد حتي لا تنفجر في المستقبل أخطاء في العملية الانتخابية قد تقود البلاد إلي حرب أهلية. ويجب أن يعرف الناس أنه باستخدام الوسائل المناسبة يمكن تحقيق نتائج طيبة لمصلحة الجميع من خلال التركيز علي التنمية الشاملة حتي يشعر الناس بأهمية السلام وضرورة المشاركة في صنعه حتي ولو كانت تكلفته كبيرة مقارنة بتكلف الحرب الباهظة. ومن الواضح أن مصر تتمني أن يبقي السودان بلدا واحدا لأن غيبة ذلك سوف تفتح أبوابا كثيرة للنزاع خاصة في وجود ذكريات قديمة لم ينسها البعض بعد, كذلك لن يتوقف المتطرفون علي الجانبين في السودان عن إشعال النزاعات بين الشمال والجنوب. لكن في نفس الوقت لو جرت الأمور في طريق الانقسام فسوف تتعامل مصر مع الوضع الجديد بحكمة, وسوف تكون عامل توفيق ونصح ومساعدة. وهناك إدراك أن موضوع الجنوب وانفصاله يمثل وضعا استراتيجيا جديدا وليس موقفا هامشيا يمكن التعايش معه بسهولة. لذلك حرصت مصر دائما علي التواصل مع الجنوب وتقديم العون له حتي في أوقات النزاعات مع الحكومة المركزية في الخرطوم. وهناك خطط مصرية في محل التنفيذ بدأتها مصر بعد توقيع الجنوب والشمال علي اتفاقية السلام, وتشتمل هذه الخطط علي مشاريع لشبكات الري والكهرباء, وأيضا في مجالات التعليم والثقافة. ولا يجب أن ننسي أن مشروع جونجلي في جنوب السودان كان من الممكن أن يمد مصر بمياه إضافية كثيرة لولا أنه توقف بسبب الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال. ولو نظرت مصر إلي جنوب السودان حتي بعد انفصاله بوصفه بلدا له أولوية خاصة, ودعمت علاقاتها مع الشمال بأكثر مما هي عليه الآن, لحلت مشاكل كثيرة مائية وزراعية وتنموية. وبرغم أن التكلفة كبيرة, إلا أن ذلك لن يتم بعيدا عن الدعم الدولي والعربي, في زمن لا تخطط الدول فيه فقط علي المستوي الوطني, بل تمتد رؤيتها إلي البعد الإقليمي والعالمي وتتكامل معه. وعند ذلك لن يكون انفصال جنوب السودان عن شماله إلا خطوة في طريق الوحدة مع مجالات أوسع وأرحب علي المستوي الإقليمي والعالمي.