رغم الاختلاف الواسع في الآراء، فإنني ممن يكنون احتراما بالغا للأستاذ محمد حسنين هيكل لأسباب فكرية وتاريخية، فهو لديه من الآراء والكتابات ما لا يمكن تجاهله في الحاضر، أما في المستقبل فإنه سوف يكون أهم مصدر عن مساحة واسعة من تاريخنا. وهو لديه موقف تختلف معه في كل الأوقات مثلي، ولكنك تحترمه، ومن ناحيتي كنت ممن يعتقدون أنه يستحق جائزة وطنية كبري- قلادة النيل مثلا- لأنه أنقذ الوطن كله عندما أقنع الرئيس جمال عبد الناصر بألا يسلم رئاسة الجمهورية للسيد شمس بدران بعد هزيمة يونيو 1967. وتعالوا نغمض أعيننا للحظة ونتخيل كيف كان سيكون تاريخ مصر إذا ما تولي واحد من أسباب الهزيمة قيادة البلاد خلال واحدة من أحرج فترات تاريخها. ولكن هذا التقدير للرجل لا يعفي من النظرة النقدية لما يكتبه ويقدمه في قناة الجزيرة في قطر، فمع كل خميس سوف نجد سباحة طويلة في تاريخ مصر المعاصر. وهي سباحة في معظمها تدور حول مصادر التاريخ التي جاءت في الوثائق البريطانية ومذكرات القادة البريطانيين من أول أنتوني إيدن وحتي أنتوني نانتنج، وفي كل الأحوال فإن الصحافة البريطانية حاضرة بقوة وإلحاح. وهنا فإن القدرة التحليلية والسياسية للأستاذ تصل إلي قمتها، فهو يحدد الخيارات المطروحة عند كل موقف، والقدرات الموعودة عند كل حالة، والأفكار واللحظات النفسية السائدة الثابتة والمتحركة فالمادة التاريخية موجودة بغزارة، والمعلومات متوافرة بكثرة، والتحليلات التي أصدرها نقاد ومحللون ومراكز بحوث وجامعات أكاديمية فيها ما يكفي لسد ضوء الشمس. ولكن كل ذلك عن بريطانيا وليس عنا حتي ولو كان الموضوع يخصنا من أوله إلي آخره، فعبر ساعات طويلة من الأحاديث فإن ما مصدره مصري وعربي قليل وشحيح ونادر، ويبرق بين آن وآخر كالشهب التي ما أن يأتي لمعانها حتي يسارع بالانطفاء. فنحن نعلم كل شيء عن مجلس الوزراء البريطاني، ونعلم عن تفصيلات الحالة النفسية لرئيس الوزراء البريطاني، ونعلم عن العلاقات بين أمريكا وبريطانيا، ولكننا لا نعلم شيئا كثيرا فوق ما جاء في الصحف عن مجلس الوزراء المصري، ولا حتي عن شخصية عبد الناصر، فلا مذكرات كافية هناك، ولا محاضر وسجلات محفوظة اللهم إلا بقايا قليلة وكلمات عامة ومقولات جاءت علي سبيل التبرير أكثر مما جاءت في سياق التسجيل. وفي النهاية فإننا نعرف عن بريطانيا وأمريكا الكثير، ولكننا لا نعرف عن مصر أكثر. مثل هذه النقطة لا تخص الأستاذ هيكل وحده، وإنما تخص طريقتنا في التعامل مع التاريخ ومع العالم ومع الأحداث، فنحن في كل الأحوال نعرف قصة الآخرين، أما قصتنا نحن فلا نعرف عنها شيئا. وعندما قال الإسرائيليون بقصة "وحدة شاكيد" أصبحت هي قصتنا بعد أن أضفنا لها بعضا من تصوراتنا وخيالاتنا، ولكن أحدا في مصر لم يجد سجلا ولا قصة ولا تاريخًا حول الموضوع. وعندما نفي الصليب الأحمر الدولي أن يكون هناك أي تبليغ مصري سابق بالموضوع أثناء حرب يونيو 1967، سارعنا بإدانة أكثر المنظمات الدولية في العالم احتراما حتي ونحن لا نقدم دليلا أو رؤية واحدة اللهم إلا القصة الإسرائيلية بعد إعادة تركيبها من جديد. وهذه الأيام فإن القصة الذائعة في الإعلام المصري والعربي تدور حول تقرير لجنة فينوجراد الإسرائيلية التي أدانت الأخطاء الفادحة للحكومة الإسرائيلية؛ وكما هي العادة استخدم تقرير إسرائيل لكي يقول قصة حرب الصيف الماضي في لبنان حتي ولو كان التقرير كله قائما علي المعايير والمقادير والمصالح والمعدلات الإسرائيلية. لم يتساءل أحد أو يستغرب من أنه لم تحدث لجنة تحقيق عربية أبدا لا في حرب يونيو 1967 ولا في كل الحروب العربية _ الإسرائيلية حتي الحرب الأخيرة في لبنان، ولم توضع قيادة عربية واحدة في موضع التساؤل لأنها ساهمت في احتلال أراض عربية أو أبقت أراضي عربية محتلة لعقود طويلة. ولم يتساءل أحد عن أحوال لبنان الآن وبعد عام من الغزو الإسرائيلي وهل أصبحت لبنان أكثر قوة ومنعة بعد النصر أم أنها أصبحت أكثر تفككا وانقساما وضعفا وخوفا من الحرب الأهلية مما كانت عليه. ولم يطرح أحد سؤالا واحدا عن حال الجنوب اللبناني، وأهل الجنوب اللبناني، وما حدث في التعويضات وإعادة البناء، ولا سأل أحد عمن ماتوا أو استشهدوا أو ذهبوا إلي حيث لا يعرف أحد تحت أنقاض أو تبخروا من قنابل حارقة. ولم يضع أحد _ كما فعلوا في إسرائيل- الأهداف التي حددها السيد حسن نصر الله ويتساءل عما إذا كان قد حققها أم لا، فهل حصل علي الأسري الذين أراد تحريرهم، وهل حرر فلسطين التي قال إنه سوف يكون رأس رمح الأمة في تحريرها، وهل حافظ علي حرية الجنوب أم أن تواجد عشرة آلاف محتل أجنبي يعدون من قبيل الانتصار طالما أنهم ليسوا من الإسرائيليين. ولكن ما حدث هو أن إسرائيل كتبت تاريخنا في حرب لبنان، وطالما قالت إنها فشلت أو هزمت أو لم تحقق أهدافها فمعني ذلك أننا انتصرنا ونجحنا وحققنا أهدافنا. وليس بهذه الطريقة يكتب التاريخ، وليس بهذه الطريقة تدار السياسة، وليس بهذه الطريقة يحدث التراكم في تجارب الأمم والدول والشعوب. ومن هنا يوجد خطر تقاليد طويلة يتبناها المثقفون العرب، وفي المقدمة منهم شخصية لها وزنها وثقلها مثل هيكل- في أن تكون قصتنا هي ما يرويه الآخرون وفقا لمعايير ومصالح وأهداف ليس بالضرورة هي التي نراها لأنفسنا. ولا يكفي أن نأخذ منهم الشهادة بالطريقة المعكوسة، فإذا قالوا عن شخص أنه فاضل فمعني ذلك أنه خائن، وإذا قالوا عن شخص بأنه سافل نجده بطلا، وإذا قالوا بالتراجع فمعني ذلك أننا تقدمنا، وإذا قالوا بالهزيمة فإن ذلك يكون نصرنا. فليس بمثل هذه الطريقة يكتب التاريخ أو يجري التحليل السياسي. وأعترف أن هذه الطريقة مغرية للباحثين والكتاب، لان الأطراف الأخري لديها دائما ملفات كثيرة، وهذه الملفات متاحة بطريقة سهلة ومريحة. وعندما شرعت في كتابة أطروحة الدكتوراه عام 1980 كنت أنوي أن تكون عن القرار المصري في حرب أكتوبر 1973، ولكن أستاذي الدكتور بطرس غالي- وكان أيامها وزيرا للدولة للشئون الخارجية- نصحني بالكتابة في القرار الأمريكي. وكان ذلك ما حدث لأن المعلومات _ أو أكثرها _ كانت متاحة، والملفات موجودة، والشهادات بغير حصر. ولكن السهولة والإغراء لا يجب عليه أن يغطي علي المشكلة أو يجعلنا لا نري معضلة كتابة التاريخ والسياسة حيث لا تكون عن تاريخنا أو سياستنا وإنما صورة حقيقية أو معكوسة لكتابات ورؤي الآخرين !.