في أثناء حملته الانتخابية الرئاسية الأولي شدد الرئيس الأمريكي جورج بوش علي ضرورة ضبط النفس عسكريا قائلا " سأكون حذرا بخصوص موضوع تسخير قواتنا المسلحة وانني اعتقد أن دور الجيش هو المحاربة والانتصار في الحرب وبالتالي منع وقوع الحرب" . أعترف منذ البداية، بأنني أحد الذين يؤرقهم كثيراً، الحالة المذرية التي أصابت الشخصية المصرية، مما جعل البعض يصفها بأنها حالة محيرة أصابتها اسقام متراكمة ما بين فقدان الثقة والانتماء. واهتزاز وتيرة بوصلة القيم وخفوت أو خبو القوة الدافعة لصناعة الحياة وانتشار التواكل والاعتماد علي لطف المقادير، والتظاهر بالعمل بلا عمل جدي أن بعمل روتيني ضئيل فاقد لروح الإتقان والاجادة. وتفشي البلادة وفقدان القدرة علي التمييز بين الحسن والقبيح، بل وامتصاص القبح واعادة إفرازه بأنواعه المادية والمعنوية والاعتماد عليه وتقبله، لذلك تسبب كل هذه السلبيات في انكفاء الشخصية المصرية علي ذاتها، حيث لم يعد يعنيها إلا ما تستطيع ان تقتنصه ولو بالاحتيال والخداع من مجتمع لم تعد تحس بالانتماء إليه، ولم تعد تشعر بأن عطاءها فيه سوف يعود بصورة أو بأخري عليها، ويستغرق الاستاذ رجائي عطية في وصفه لحالة الانطفاء التي نشبت في كل شيء حولنا، في تصرفاتنا وسلوكنا وأعمالنا وأقوالنا والتي يعزي إليها في الواقع الحالات التي نضبط من آن لآخر أنفسنا متلبسين بالوقوع فيها، وذلك في محرقة مسرح أو قطارات وغرق عبارات، أو انهيار عقارات، أو في حوادث وقضايا النهب المقنن التي نسمع ونقرأ عنها كثيراً بشكل مستفز ومحبط (الأهرام 14/9/2006). ربما كان إحساسي بكل ذلك، هو الذي دفعني للكتابة حول ذلك الموضوع في مقالتين متتابعتين علي نفس هذه الصفحة في شهر يوليو الماضي، ونظرا لما أتصوره حول المخاطر الجمة، التي قد يؤدي إليها انصرافنا حكومة وباحثين ومفكرين وكتاب اً عن التنبيه أو التأكيد علي ذلك الابتلاء الذي أصابنا وطفح علي سطح بنائنا الاجتماعي، لذلك وجدت نفسي مدفوعاً مرة أخري للحديث عن ذات الموضوع، وقد شجعني علي ذلك في الحقيقة، أمران هامان، الأول يتعلق برصدي لكتابات هامة وقيمة قرأتها في بعض صحفنا السيارة، والثاني يرتبط بملاحظتي لاحتفاء مجلة "الديمقراطية" في عددها الأخير بتلك القضية، مما جعلها تخصص ملف ذلك العدد بأكمله للحديث حول الشخصية المصرية: "ملامح متعددة للهوية". لذلك سوف أحرص في كتاباتي التالية علي إظهار أو تسليط الضوء علي مجموعة الدراسات أو المقالات التي تضمنها ذلك الملف اعتقادا مني بأهمية طرح الذي تضمنته علي جمهور القراء، واتاحته لغير المهتمين بالقراءة في مثل تلك الدوريات المتخصصة. وقد رغبت قبل أن اشرع في ذلك، بالاشارة إلي قليل من كثير مما اعتري الشخصية المصرية من سمات سلبية بفعل اسباب وتراكمات متعددة المصادر كان من نتيجتها المباشرة ما سوف نستعرضه حالا بخصوص التسيب المالي والإداري والاخلاقي الذي غلف قطاعات كثيرة حولنا، ومن أمثلة ذلك ما يلي: أولا: شيوع "فقه النهب" في مصر: حيث لم يعد النهابون فئة من المغامرين الذين يخطفون الثروات غصبا عن القانون ثم يهربون، بل إن منهم اناساً من علية القوم، الذين يمارسون النهب المنظم للمال العام تحت سمع وبصر القانون وفي حمايته وهم جالسون علي قلوبنا في مكاتبهم الفاخرة، وذلك علي حد قول الاستاذ/ فهمي هويدي في مقاله بالاهرام تحت عنوان "فصل في النهب المقنن"، ومنها لجوء إحدي كبار المسئولين باتحاد الاذاعة والتليفزيون سابقاً، والمتهم حالياً في أحد قضايا الرشوة إلي ذلك المسلك، علي الرغم من انه كان يتقاضي اجوراً ومكافآت شهرية رسمية تجاوزت 60 ألف جنيه، أي بمعدل ألفي جنيه يومياً!!! ويعود الاستاذ/ هويدي للقول، بأن هذه الحالة ليست حالة استثنائية بين كبار موظفي الدولة، ولكن الثابت ان الاعتراف غير المنضبط من المال العام تحول إلي وباء طال العديد من الهيئات والوزارات والمؤسسات الحكومية والإدارات المحلية، فبعض رؤساء الجهاز التنفيذي الكبار، يتقاضي الواحد منهم بدلات ومكافآت شهرية تصل إلي 300 ألف جنيه!! كما ان أحد سكرتيري العموم باحدي المحافظات الكبري، بلغ اجمالي ما حصل عليه خلال عام واحد حوالي 400 ألف جنيه، أي بمعدل شهري يزيد عن 33 ألف جنيه في حين ان راتبه لا يتجاوز ثلاثة آلاف جنيه!! وإذا كان جدول الوظائف والأجور السائد حالياً يبخس موظفي الدولة حقوقهم بحيث أصبح لا يمكنهم من تلبية متطلبات المعيشة في حدها الادني، إلا أن الحكومة يبدو انها قد عجزت عن حل مشكلة موظفيها، لذلك فتحت لهم أبوابا جانبية لزيادة دخولهم، لكن الحاصل أن بعض كبار موظفيها هم وحدهم الذين استفادوا بذلك دون غيرهم، لذلك اتسعت الفجوة بين كبار الموظفين وصغارهم، وتشكلت في مختلف الوزارات والهيئات والمحليات "مافيات" تفننت في نهب المال العام مستفيدة من الرخصة القانونية وثغرات اللوائح والقرارات الأولوية. فهل يعقل ان يذهب حوالي عشرة مليارات من الجنيهات إلي جيوب كبار الموظفين، وذلك من حصيلة الصناديق الخاصة ومشروعات الخدمات والغرامات التي تباشرها الوزارات وأجهزة الحكم المحلي؟ وهل يعقل كذلك ان يتقاضي اعضاء مجلس ادارات الهيئات والشركات والمؤسسات التي ينتدب إليها كبار موظفي الدولة، مبالغ تتراوح ما بين الفين وخمسة الاف جنيه كبدل لحضور الجلسة الواحدة؟! أو هل يعقل ايضا ان يحصل أحد الافراد علي ارض قيمتها بالمليارات دون وجه حق؟ وهل يمكن أن تفلس مؤسسة لان المسئولين فيها نهبوها وتركوها اطلالا، أو أن ندع السكة الحديد لاتجدد عرباتها منذ ثلاثين عاما، أو أن نتكبد حوالي 26 مليون جنيه لنقل تمثال رمسيس الثاني، أو أن تبلغ ديون المؤسسات الصحفية اكثر من ستة مليارات جنيه، وتبلغ ديون التليفزيون خمسة مليارات جنيه، ماكل هذه المليارات وأين ضاعت، ومتي سيجئ وقت الحساب؟! (الاستاذ/ فاروق جويدة الأهرام 15/9/2006) ثانيا: انتشار أسلوب الادارة بالتصريحات والوعود الكاذبة: كثيرة هي الحالات التي تؤكد علي ذلك وتبرهن عليه، فلنا هنا أن نتابع فقط تصريحات الكثير من المسئولين في مختلف قطاعات الدولة ووزاراتها. وخصوصا تلك التي تتعلق أنشطتها بالحياة اليومية للمواطنين، حيث يعمد هؤلاء المسئولون دائماً لصرف الانتباه عن النواقض والعوار وعدم الجدية الذي يغلف أداء الاجهزة التي يتولون ادارتها، ولنا في هذا المضمار الكثير بدءاً من غياب اجراءات السلامة الحقيقية عن عباراتنا وقطاراتنا التي اكتشفنا فجأة قدمها وعدم صيانتها أو صلاحيتها، وفجأة أيضا يتم الوعد بتوفير المليارات اللازمة لكل ذلك! ولعل من أحدث وأندر القصص وأرذلها، ما دار اخيرا بشأن الانقطاع المتكرر للمياه في أحياء عديدة بمدينة القاهرة (لاحظوا معي أنها العاصمة) ومدي المعاناة الشديدة للمواطنين القاطنين بها جراء انقطاع المياه عنهم، حيث خرج علينا المسئولون بشركة مياه القاهرة الكبري بالعجب العجاب بهذا الخصوص، إذ تتابعت تصريحاتهم ووعودهم الكاذبة في سيناريو سخيف علي النحو الآتي: 1 افادونا أولا بأن سبب ذلك الانقطاع يرجع إلي أسباب فنية (غسيل المرشحات) وان تلك المشكلة سوف يتم حلها في يومين ولم يحدث أو يتحقق ذلك. 2 حاولوا "زورا وبهتانا" أن يرجعوا ذلك إلي الشوائب العالقة بالمياه عند مأخذ محطات مياه الشرب التي تمد الاحياء التي تنقطع عنها المياه بشكل يومي، إلا أنه غاب عنهم أن الشوائب تلك وان صح ادعائهم كان من المفروض أن تتسبب في انقطاع المياه عن مختلف أحياء القاهرة المختلفة، ولكن لم يحدث ذلك. 3 الشيء المستفز في ذلك، هو مطالبة شركة المياه من المواطنين بعدم الاسراف في استخدام مياه الشرب في اغراض مثل رش الحدائق والشوارع وغسيل السيارات وسبب الاستفزاز في ذلك هو الانقطاع المستمر للمياه حتي لاغراض الشرب وقضاء الحاجة، فكيف في ظل ظروف كتلك يلجأ الناس لرش الحدائق أو غسيل السيارات؟! 4 بعد أن تأكد لمسئولي شركة المياه عدم مصداقية وعودهم بإنهاء المشكلة في غضون يومين، عادوا علي استحياء لمد فترة الوعد الي أربعة أيام، تصورا لماذا؟ حتي يتسني استئصال الطحالب والاعشاب البرية التي تسببت في سد الفلاتر الخاصة بتنقية المياه في المحطات الرئيسية، ولم ينس المسئول ان ينوه إلي زيادة حدة تلك المشكلة بالنسبة لحي "مدينة نصر" وهو الحي الذي يشهد تكرارا لهذه المشكلة منذ سنوات طويلة، وليس بسبب الشوائب كما قيل لتبرير استمرار المشكلة. 5 عندما أحس المسئول بكبر حجم المشكلة وعدم القدرة علي تنفيذ وعوده السابقة، تفتق ذهنه إلي حلها باستخدام طريقة المناورة أو المناوبة بمعني استخدام جدول زمني أو "خريطة طريق" لأسلوب الإمداد بالمياه علي الأحياء التي نكبت بهذه المشكلة، وقد تم بالفعل نشر ذلك الجدول بالصحف، تماماً كما لو كنا في بعض قري الصعيد الجواني التي يتم حل مشاكل انقطاع التيار الكهربائي بها بهذه الوسيلة البدائية. وإلي ان يتم حل تلك المشكلة بشكل جذري، كما هو الحال لأي مجتمع يتطلع مواطنوه للحصول علي كوب ماء وليس كوب لبن لكل طفل فيه، نحن في انتظار قراءة أو سماع المزيد من التصريحات والوعود التي أدمنا شربها بكل ما تحمله من شوائب وخداع وأكاذيب.