تحدد "تقديرات الاستخبارات الوطنية حول العراق" التي صدرت مؤخراً، أبعاد الهوة بين أوهام الرئيس جورج بوش وواقع الحرب. فإذا كان الانتصار، مثلما يراه الرئيس، يتطلب ديمقراطية ليبرالية مستقرة في العراق موالية للولايات المتحدة، فإن "تقديرات الاستخبارات الوطنية" تصف حرباً لا حظَّ لها في الإتيان بتلك النتيجة. وبهذا المعني، فإن "تقديرات الاستخبارات الوطنية"، والتي تعكس رأي جميع وكالات الاستخبارات الأمريكية، تمثل إعلان هزيمة. وتعكس خلاصات التقرير القاتمة تطابقاً في وجهات النظر بين وكالات الاستخبارات والجمهور الأمريكي؛ ذلك أن الجمهور استيقظ وانتبه لواقع الفشل في العراق العام الماضي، وسحَب الأغلبية من "الجمهوريين" في الكونجرس، في خطوة ترمي إلي إيقاظه؛ غير أن مجموعة كبيرة من أعضائه مازالوا غارقين في النوم، أو "نصف مستيقظين". ربما الأمر ليس مفاجئاً، علي اعتبار أن الأمريكيين لا يطيقون الهزيمة أو الفشل، وهو ما يفسر رفض ساستنا القوي الاعتراف بمسئوليتهم عن أي شيء يشبه تلك "النتائج غير الأمريكية". وهكذا، فإنهم يعمدون إلي التزام الغموض وينخرطون في مناقشة "القرارات غير الملزمة" التي تعارض مخطط الرئيس القاضي بزيادة عدد القوات الأمريكية في العراق. لقد أصابنا التصادم بين صفاء ذهن الجمهور، وسعي الرئيس الحثيث وراء الهزيمة، وقلق الكونجرس، بالشلل في الوقت الراهن. وقد يكتب علينا أن نقضي سنتين إضافيتين في البحث عن سراب الديمقراطية في العراق، وربما أيضاً توسيع الحرب لتشمل إيران. والحال أن برلماناً، أو رئيسا، مستعداً للتخلي عن لعبة "من يتحمل المسئولية"، من شأنه أن يغير الاستراتيجية الأمريكية علي نحو يزيد امكانية بناء شرق أوسط أكثر استقراراً. إننا نواجه خطراً كبيراً في تلك المنطقة من العالم؛ وعليه، فتحسين حظوظنا سيكون أمراً صعباً للغاية. ولعل أول ما يتطلبه ذلك، من الكونجرس علي الأقل، هو الاعتراف علناً بأن سياسة الرئيس الحالية قائمة علي الوهم، وليس الواقع. ذلك أنه لم تكن ثمة أبداً طريقة صائبة وصحيحة لغزو العراق وتحويله نحو الديمقراطية، ومعظم الأمريكيين يعلمون ذلك علم اليقين. غير أن حقيقتين رئيسيتين لابد من توضيحهما في هذا المقام: أولاً: فكرة أن الولاياتالمتحدة تستطيع خلق ديمقراطية دستورية ليبرالية في العراق تتحدي كل ما يعرفه الخبراء والمختصون. ذلك أنه من أصل الديمقراطيات الأربعين التي أُنشئت منذ الحرب العالمية الثانية، فإن أقل من 10 ديمقراطيات فقط يمكن اعتبارها حقا "دستورية"، بمعني أن نظامها الداخلي محمي بحكم القانون وبامكانه الاستمرار لفترة جيل علي الأقل. كما أنه لا يوجد بلد عربي أو إسلامي واحد من بين هذه الديمقراطيات، إضافة إلي أن أياً منها لا يعاني تصدعات طائفية وعرقية عميقة مثلما هو الحال في العراق. لا يعني هذا أن العرب عاجزون عن التحول نحو الديمقراطية، فهم عندما يهاجرون إلي الولاياتالمتحدة مثلاً، فإن كثيرين منهم يفعلون ذلك بسرعة، وإنما يعني أن البلدان العربية، إضافة إلي أغلبية كبيرة من بلدان العالم الأخري، تعتقد أن خلق ديمقراطية دستورية مستقرة أمر يتجاوز قدراتها. ثانياً: أن نتوقع زعيماً عراقيا يحافظ علي تماسك بلاده ويكون موالياً للولايات المتحدة، أو يشترك معها في أهدافها، إنما يمثل تخلياً عن العقل والمنطق. فقد احتاجت الولاياتالمتحدة مثلاً إلي أزيد من قرن من الزمن لتجاوز عدائها للاحتلال البريطاني. بل إن استطلاعات الرأي تسجل، مع مرور كل شهر من الاحتلال الأمريكي للعراق، تزايد عداء العراقيين للولايات المتحدة. فمؤيدو الحضور العسكري الأمريكي أنفسهم يقولون إنه مقبول مؤقتاً، وفقط بهدف تفادي انتصار إحدي الفصائل المتناحرة في العراق. ولكن، هل سيقرر الكونجرس التحرك بعد أن انتبه إلي هذا الواقع؟ ليس بالضرورة؛ ذلك أن العديد من المشرعين يصدقون الأساطير التي يشار إليها خلال محاولة الترويج لأهداف استراتيجية الرئيس الجديدة. ولنتأمل أكثرها أهمية وتردداً. 1- "علينا أن نواصل الحرب لتلافي حدوث مرحلة ما بعد الحرب التي قد تقع في حال انسحبت قواتنا بسرعة". لنتأمل هنا المغالطات والمفارقات التي يقوم عليها هذا الادعاء. والحال أننا نخوض اليوم حرباً من أجل تفادي ما جعله غزوُنا أمراً محتماً! وبالتالي، فمما لا شك فيه أننا سنترك وراءنا فوضي- الفوضي التي تسببنا فيها نحن والتي مافتئت تتفاقم مع مرور كل عام نمكثه هناك. غير أن المشرعين الأمريكيين يعبرون عن معارضتهم للحرب، ولكنهم في الوقت نفسه يعبرون عن خشيتهم من أن التخلي عن الحرب من شأنه أن يفضي إلي حمام دم، أو حرب أهلية، أو ملاذ للإرهابيين، أو "دولة فاشلة" أو غير ذلك من الأمور المروعة. إلا أن "مرحلة ما بعد الحرب" هذه هي واقع حال؛ وبالتالي فإن احتلالاً أمريكياً مطولاً لا يمكنه أن يمنع وقوع أمر واقع أصلاً. 2- "علينا أن نواصل الحرب لمنع إيران من توسيع نفوذها في العراق". وهذه فكرة أخري لا تقل غرابة؛ والحال أن أحد أهداف الرئيس الأولي من وراء الحرب، أي خلق ديمقراطية في العراق، هو الذي أمّن تزايد النفوذ الإيراني في كل من العراق والمنطقة. إذ من شأن الديمقراطية الانتخابية أن توصل المجموعات الشيعية، علي نحو يمكن توقعه، إلي السلطة. ثم لماذا يتبني الكثير من أعضاء الكونجرس الرأي الذي يري أن تمديد الحرب من شأنه أن يمنع ما تسببت فيه الحرب أصلاً؟ الواقع أن الخوف من أن يواجه الكونجرس هذا التناقض يساعد علي فهم الدعوات الصادرة عن بعض أعضاء الإدارة الأمريكية والمحافظين الجدد لتوسيع الحرب كي تشمل إيران. 3 _ "علينا أن نمنع ظهور ملاذ جديد للقاعدة في العراق". والحال أن الغزو الأمريكي هو الذي فتح أبواب العراق في وجه "القاعدة". فكلما طال وجود القوات الأمريكية هناك، كلما أصبحت "القاعدة" أكثر قوة. أما ما إن كانت هذه العناصر الأجنبية ستبقي وتزدهر في العراق بعد أن تضع الحرب الأهلية أوزارها، فهو أمر موضع تساؤل. وفي غضون ذلك، فإن مواصلة الحرب لن تُخرج "القاعدة" من العراق، بل علي العكس من ذلك، إذ يمثل الوجود الأمريكي غراءً يحافظ علي "القاعدة" هناك اليوم. والحقيقة أنه من شأن إعادة تنظيم قدراتنا الدبلوماسية والعسكرية في سبيل تحقيق النظام في العراق، تقليل أعداد أعدائنا وإكسابنا حلفاء جددا ومهمين؛ غير أن هذا لا يمكن أن يحدث قبل أن تبدأ قواتنا بالانسحاب من العراق. ثم لماذا علي إيران أن تتفاوض من أجل تخفيف آلامنا طالما نعمل- نحن- علي زيادة تأثيرها في العراق وغيره؟ إن من شأن الانسحاب أن يوقظ معظم الزعماء في المنطقة وينبههم إلي الحاجة إلي دبلوماسية تقودها الولاياتالمتحدة لإرساء الاستقرار في منطقتهم. إذا كان بوش يرغب حقاً في إنقاذ شيء من تركته التاريخية، فعليه أن يتخذ المبادرة ويطبق هذا النوع من الاستراتيجيات، وهو ما سيجعل منه زعيماً يتذكره التاريخ بقدرته علي تغيير الاتجاه وتحويل هزيمة مأساوية وشيكة إلي وضع استراتيجي أفضل. أما في حال اختار مواصلة النهج الحالي، فسيترك للكونجرس فرصة الفوز بالفضل في تحقيق هذا المنعطف التاريخي. والواقع أن الوقت متأخر أصلاً كي ننتظر مرشحاً رئاسياً في عام 2008 لإصلاح الوضع. أما في حال لم يستطع الكونجرس التحرك، فالمؤكد أنه لن يسْلَمَ هو الآخر من العار. استراتيجية بوش الجديدة في العراق والحجج الأمريكية الزائفة : ثمة شيء غريب حقاً بخصوص مواقف أولئك الذين ما زالوا يدعمون خطة الرئيس بوش في العراق. والأمر كذلك ليس لأنهم مخطئون_ فجميعنا نخطئ أحياناً- وإنما لأنهم منفصلون تماماً عن الواقع. فالحجج التي يدفعون بها لا علاقة لها بما يجري في العراق حالياً. ثم إنهم لا يزعمون بأن لمنتقدي بوش فهماً خاطئاً لما يحدث في العراق؛ وإنما يبدون هم أنفسهم غير مهتمين بالموضوع أصلاً. وعلاوة علي ذلك، فإن كل حججهم ومقولاتهم تقريباً، لا تتعدي مستوي التجريد. إذا كنتَ من المتتبعين للأخبار في العراق، فإن القصة أصبحت مألوفة علي نحو يبعث علي الاكتئاب؛ ذلك أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي متحالف مع الشيعة المتشددين؛ وحكومته مخترقة اختراقاً كبيراً من قبل الميليشيات الشيعية. ثم إن كل ما قام به خلال إدارته لدفة الحكم في العراق يصب في اتجاه منح الشيعة اليد الطولي علي السُنة. ولما كان الجيش العراقي مخترَقاً من قبل الميليشيات الشيعية، فإننا، بهذا المعني، ندرب الأشرار وندعمهم. أما أعضاء الميليشيات الشيعية الذين لم ينضموا إلي الجيش، فيعمدون إلي الاختباء ويتوارون عن الأنظار عندما تقوم قواتنا بدوريات الأمن في بغداد حتي نحارب السُنة ويبقوا هم في الساحة. وفي هذا السياق، يقول "توم ليستار" من مؤسسة "ماكلاتشي" للنشر قبل أسبوع ونصف الأسبوع: "لقد قوت جهود الجيش الأمريكي، الرامية إلي تدريب قوات الأمن العراقية ودعمها- علي نحو غير مقصود- ميليشيا "جيش المهدي" التابعة لرجل الدين الشيعي المناوئ للولايات المتحدة مقتدي الصدر". والواقع أن ذاك هو السبب الذي يكمن وراء تأييد المالكي لزيادة عدد القوات الأمريكية في العراق؛ ذلك أنه في حال نجاحها، فإن هذه الزيادة ستقوم بمهمة طرد السُنة من بغداد بشكل أسرع وأفضل. ولكن، لماذا علينا أن نساعدهم؟ منتقدو استراتيجية بوش ينطلقون جميعهم من هذه القراءة للأحداث؛ حيث يقول منتقدو الإدارة إن لدورنا الحالي الأثر الحتمي وغير المقصود المتمثل في تمديد الحرب الطائفية وتوسيعها. وبالتالي، فإذا أوقفنا تعاوننا مع أحد أطراف الحرب الأهلية، فإنه لا يمكن أن نجعل الأمور أسوأ، بل من الممكن في الواقع أن نجعلها أفضل علي اعتبار أنه في حال لم نعد نخوض القتال بدلاً من الشيعة، فربما يدفعهم ذلك إلي التفاوض مع السُنة. ولكن، ماذا يقول مؤيدو الإدارة في هذا الباب؟ لنُلق نظرة. السيناتور المستقل "جو ليبرمان" من ولاية كونيكتكت، الذي يعد واحداً من أشد مناصري استراتيجية بوش، أدلي بتصريحين رئيسيين بخصوص الحرب في 2007. ففي تصريحه الأول، وهو رسالة في يناير، قال "ليبرمان": "إن الانسحاب من القتال لا يعد سياسة حكيمة بعيدة المدي بالنسبة للأمن القومي للولايات المتحدة؛ ذلك أن الانسحاب من القتال وصفة للهزيمة". ولكن، كيف يتصور "ليبرمان" انتصارنا في العراق؟ وماذا عن التقارير التي تفيد بأن تحركاتنا لا تعمل سوي علي إذكاء الحرب الأهلية؟ رسالة السيناتور "ليبرمان" لم تأت علي ذكر أي من هذه المواضيع. بعد ذلك، أدلي "ليبرمان" بخطاب حول الحرب؛ والواقع أنه كان أسوأ من سابقه. أما فكرته العامة، فتتمثل في أن من شأن تصويت مجلس الشيوخ علي سحب الثقة من الرئيس بوش خفض معنويات حلفائنا وتقوية العدو. ولكنه لم يتضمن شيئاً حول كيف يمكن لاستراتيجية بوش أن تنجح. قد يقول المرء: حسنا،ً فربما ليس في كلام" ليبرمان" شيء مهم من حيث الجوهر. والحال أنه رجل سياسي، والسياسيون يدركون جيداً أن كلماتهم وتصريحاتهم توثَّق للتاريخ. ولكن، ربما يكون للمثقفين الذين يدعمون بوش شيء أعمق يقولونه، أليس كذلك؟ كلا، للأسف. فصحيفة "ذا ويكلي ستاندرد" مثلاً، التي تعد معقل ما تبقي من دعم لبوش، خصصت افتتاحيات ثلاثة أعداد متتالية للحرب. أما الافتتاحية الأولي، فقد أكدت فيها علي أن "من شأن التخلي عن الجهود الأمريكية للسيطرة علي العنف في العراق أن يؤدي إلي زيادة في أعمال العنف"، غير أنها لم تقدم أي حجج أو دلائل تدعمها فيما ذهبت إليه. كما لم تشر إلي عدم اهتمام المالكي الواضح بالتصالح مع السُنة أو اختراق القوات المسلحة العراقية من قبل الميليشيات الشيعية. الافتتاحية التالية، وكتبها رئيس التحرير التنفيذي "فريد بارنز"، عقدت مقارنة مع حرب فيتنام، وبحثت في أوجه الشبه بين الحربين. وقد اقترب "بارنز" من توضيح فكرة جوهرية ومهمة عندما أشار إلي أن معارضي الحرب عملوا علي تشويه سمعة الحكومة الفيتنامية أيضاً. ولكن، هل يعني هذا بأننا مخطئون في تشويه سمعة الحكومة العراقية اليوم؟ "بارنز" لم يفصح عن رأيه. أما الافتتاحية الثالثة، فأفردتها الصحيفة كليا للهجوم علي المعارضين للقرار القاضي بزيادة عدد القوات الأمريكية في العراق ووصفهم بالجبناء. والواقع أن الصحيفة لم تحمل نفسها عناء ادعاء أننا بصدد الفوز، أو أن الفوز مازال ممكناً، أو أن من شأن الانسحاب أن يكون أسوأ. هذا هو واقع الحال، فالمدافعون عن ضرورة دعم بوش يقولون بضرورة أن نثق بالقائد الأعلي للقوات المسلحة، وبألا نضعف القوات، وبأن الانسحاب يعادل الهزيمة. غير أن هذه العبارات ليست حججاً لدعم استراتيجية بوش، وإنما هي حجج عامة مؤيدة للحرب. والواقع أنه يكفي أن نغير بعض التفاصيل، فتصبح هذه العبارات صالحة لدعم غزو نابليون لروسيا أو احتلال الصليبيين للقدس أو أي حرب تقريباً. قد تكون الحجج العامة المؤيدة للحرب مبتذلة، إلا أنها هي العبارات التي يلجأ إليها المرء عندما ينفصل عن الواقع.