إذا كانت أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 قد أوجدت بالنسبة للولايات المتحدة تطورا في سير الأحداث ودفعت بعنصر جديد أطلق عليه "الإرهاب" إلي الصدارة وما تبع ذلك من تغيير في السياسات، فإن الحرب المفروضة علي لبنان أوجدت بالنسبة للدول العربية ما يشبه ما أوجدته أحداث 11 سبتمبر في أمريكا. فأول شيء لفت الأنظار واكتسب الأهمية وأثار الدهشة هو الضراوة المتعمدة في أداء هذه الحرب فهي حرب لها هدف واحد هو التدمير والإبادة، التدمير للمباني والبنية التحتية وللمستشفيات وللطرق وللجسور ولخطوط المياه والكهرباء تدمير لا يقوم به إلا مجنون لا يدرك معني هذا.. ولا مصير الكتل الإنسانية ومئات الألوف من الناس الذين يعيشون بعد هذا التدمير.. وكيف يأكلون ويشربون ويسيرون.. إلخ علي كل حال فقد اتضح أن هذا السؤال لا يعني مدبري الحرب لأن من أغراضها إبادة البشر مثل تدمير الحجر إنها تلقي بالقنابل علي سيارات ومواكب الفارين من جحيم الغارات ومن هنا لم يكن هناك اعتبارا للنتائج المأساوية والكارثية لهذه الحرب المجنونة التي ما كان نيرون أو كاليجولا أو الهون أو جنكيز خان يقوم بها. وثاني شيء أثر تأثيرا عميقا في الناس موقف الولاياتالمتحدة فإذا كانت إسرائيل ذات سوابق متكررة ودائمة في القتل والتدمير والإذلال والمضايقات فإن الولاياتالمتحدة فاقتها في هذه الحرب فبعد أن أعطتها الضوء الأخضر للإقدام علي الهجوم فإنها قاومت كل جهد سياسي أو إنساني لتلطيف المأساة أو لمعالجة جوانبها الإنسانية وحرضت إسرائيل علي أن تستمر في الحرب بحجة القضاء علي المقاومة الإسلامية في لبنان وكأنما تريد أن تثأر لحسابات قديمة مع بن لادن أو إيران أو كل إسلامي، ولكن إسرائيل لم تدمر المقاومة وإنما دمرت بيروت الجميلة وكل ما ترمز إليه من حرية وثقافة وما علاقة ذلك بالمقاومة في معاقلها بالجنوب؟ لم تسأل أمريكا نفسها هذا السؤال بل زودت إسرائيل بالقنابل العنقودية ورفضت في مجلس الأمن عن طريق الفيتو قرار إيقاف النار، وكان مما يثير الغيظ إلي آخر مدي إن لم ينل منها ما تأثر به العالم أجمع وطالب بإيقاف إطلاق النار وواصلت جهودها حتي مستوي اجتماع دول الثمانية لإفشال أي مسعي لهذا وحتي حالت دون إصدار أي نقد لمهاجمة إسرائيل أحد مواقع الأممالمتحدة وقتل أربعة من رجالها. أرادت كوندوليزا رايس لهذا التدمير الشامل أن يستمر أسبوعا أو اثنين حتي يهيم الناس علي وجوههم ويعيشون فيما قبل الثورة الصناعية الأولي وحتي يتهاوي المجتمع وتوجد فوضي خلاقة ومن هذه الفوضي وبفضلها سيوجد شرق أوسط جديد. وقد أظهر هذا أن الولاياتالمتحدة مصلحة في تلك الحرب وأنها إنما جعلت حليفتها إسرائيل تقوم بها بالوكالة عنها، وأن المصلحة الأمريكية هي تدمير كل كيان إسلامي، حماس في إسرائيل، وحزب الله في لبنان لإقامة مشروعها القديم في الشرق الأوسط وإنما جاء هذا لأن المقاومة الإسلامية هي المعارضة الصلبة التي لا تقبل تعاملا مع أمريكا ولا يجوز عليها خداعها ولا يمكن شراؤها وأن هدف هذه السياسة كلها استغلال حالة الفوضي والتردي التي أدت إليها الحرب لتتمكن أمريكا من تحطيم قوي المقاومة وتكوين شرق أوسط جديد. وهناك عامل ثالث أثر علي الجماهير تأثيرا عميقا وهو وإن لم يصدر عن الولاياتالمتحدة فليس بعيدا عنها، ذلك هو موقف النظم العربية الحاكمة وما اتصفت به من بلادة و"استخذاء" إزاء الحرب وتأييدها للسياسة الأمريكية واعتبار أن لبنان هو المسئول عن إثارة هذه الحرب. أضف إلي العوامل السابقة نجاح المقاومة في هزيمة الجيش الإسرائيلي في أول مجابهة واستطاعت صواريخها أن تقوم بضربات موجعة للمستوطنين وتجعلهم يذوقون شيئا مما كانوا يمارسونه علي الفلسطينيين وما اتصف به حسن نصر الله قائد هذه المقاومة من شجاعة وإيمان وتفان مع حكمة وإنصاف ودون أن يداخله غرور أو زهو كما تشهد بذلك كلماته الرصينة الحكيمة المتزنة. هذه العوامل كلها، وحشية الحرب إلي درجة محت فيها كل ما وصل إليه المجتمع الحديث من تقدم وقيم وتحضر وعادت به إلي الوحشية القديمة ثانيا إصرار الولاياتالمتحدة علي هذه الحرب ودعمها المطلق لإسرائيل متحدية في ذلك العالم أجمع، وثالثا الموقف المتخاذل للقيادات العربية، ورابعا صعود نجم المقاومة وصمودها إزاء الاجتياح الإسرائيلي وما تمتع به زعيمها السيد حسن نصر الله من شعبية كاسحة. أقول إن هذه العوامل قد هيأت المنطقة ليظهر الشرق الأوسط الجديد، ولكن بصورة لا تحلم بها الولاياتالمتحدة، لأنه سيكون النقيض، وسينسف الجسورالتي يقوم عليها الشرق الأوسط الحالي وتحالفاته مع الولاياتالمتحدة. إن المنطقة ستشهد مخاضا وولادة جديدة، وستنتهي فترة الحيرة والقلق والتحالف الأمريكي المهين. كيف سيحدث هذا؟ الذين يرسمون المستقبل في ضوء اعتبارات الحاضر يعجزون عن رؤية السحابات المؤذنة بالعاصفة، كما لا يكون لديهم فكرة عما يمكن أن تلجأ إليه الشعوب، لقد بدأت انتفاضة الأقصي بقذف الأطفال السيارات الأمريكية بالحجارة، وتهيأت إيران للثورة بفضل "كاسيتات" الخميني وسيأتي المستقبل بما ستلجأ إليه الشعوب العربية، وكل الذين يدرسون التاريخ ويعلمون الطبيعة البشرية وسلوك الشعوب في ساعات محنتها لا يستبعدون هذا، بل يرونه حتما مقضيا، وأن المسألة مسألة زمن فحسب. هناك عوامل عديدة لم يحسب حسابها تؤثر علي بوش وعصبته وحكام إسرائيل.. إن أمريكا نفسها لن تقف في الأيام المقبلة كما وقفت تحت هيمنة أضاليل بوش أنها سترفضه في أول انتخابات ولن يحتفظ "الإيباك" الإسرائيلي بقوته ونفوذه الأسطوري كأنما هو قوة لا تقهر. إن تحالفات العالم تتغير وتتبدل وستعزل حسابات المصالح وتوازنات القوي وأوروبا عن أمريكا. وأخيرا.. فإن الشعوب العربية التي سئمت الوجوه الكريهة الحاكمة، والتي يئست من تحقيق أي إصلاح علي يديها اكتسبت دليلا جديدا لا يدحض هو أن هذه القيادات فقدت كل حمية، فقدت كل شرف، ضربت عرض الحائط بآخر أمل فيها، إن أيامهاقليلة، وستصبح أقل فأقل.