الانتماء احتياج أساسي للإنسان، لا سيما في فترة الشباب، التي فيها تتكون ملامح الشخصية، تتحدد توجهات الشباب المستقبلية، ولكن المؤسف ان البعض يتصور الانتماء نوعا من الصفقات، التي فيها يتغلب الأخذ علي العطاء.. فيصير الانتماء اضافة الي الذات، وقيمة أنانية فردية أو طائفية أو حتي جماعية، لهذا يقول بعض الشباب: كيف انتمي الي مصر، وأنا لا أنال كل حقوقي، لا أجد فرصة عمل جيدة، ولا فرصة سكن، ولا فرصة زواج. الحقيقة ان هذا التفكير غير سليم، فالانتماء أساسا احتياج انساني، متعدد الزوايا، وهو مكسب بحد ذاته.. كيف؟ فعلا، فهو جزء أساسي من الطبيعة الانسانية، وهو احتياج متعدد الزوايا لأنه: 1- الانتماء احتياج نفسي: فإن كان الجهاز النفسي للانسان غرائز واحتياجات نفسية موروثة، مع عواطف وعادات واتجاهات مكتسبة، يكون الانتماء أحد الحاجات النفسية الأساسية، التي بدونها لا تستقيم النفس، ولا يسعد الإنسان. وكما يحتاج الانسان نفسيا الي الأمن، والحب والتقدير، والتفرد، والمرجعية، يحتاج الي الانتماء. يستحيل ان يسعد الانسان في وضع اللامنتمي، اذ يحس انه في حالة فراغ، ووحشة، وعزلة رهيبة، وكأنه معزول في جزيرة موحشة، وكل ما حوله ظلام ورعب ووحوش! وهو بذلك يقترب من احساس بعض الوجوديين الملحدين الذين كانوا يقولون: "الجحيم هو الآخر" فهم يعيشون وحشة الذات وعزلة الأنا ورفض الآخر!! ويتصورون ان الآخرين يعطلون تقدمهم، ويعرقلون نجاحهم، وامكانية تحقيق ذواتهم. مع ان الحقيقة انني لا اكتمل الا بالآخر، فهو عون وسند، وفيه يتحقق الحب، والتعلم، والافتداء، ومن خلاله تتكون الاسرة، والجماعة، والمجتمع. ان الاديان تدعونا الي العطاء، وقديما قال السيد المسيح: "مغبوط هو العطاء أكثر من الاخذ (أع 20 : 35). وهذه حقيقة اختبارية، عملية وعلمية، وليست مجرد وصية دينية. فالجحيم الحقيقي هو الانحصار في الذات، وقديما قال الآباء: "إن المشيئة الذاتية هي الجحيم"، فالانسان الأناني دائما كاره ومكروه، اما الانسان المعطاء فهو دائما محب ومحبوب.. ومن هنا تبدأ السعادة، والسلام النفسي. 2- الانتماء احتياج اجتماعي: فالانتماء يشيع هذه الحاجة ايضا، واقصد الحاجة الي الاخر، والي الاحتكاك والتفاعل، والتعاون والتناسق، والاتحاد والشراكة. فالانسان اصلا "مخلوق اجتماعي"، وهو يحيا السعادة من خلال انتمائه للجماعة، أخذا وعطاء، وبخاصة كلما زاد عطاؤه عن أخذه. الانسان المنحصر في ذاته يحيا جحيم الرغبات الجامحة، والطموحات المحققة وغير المحققة والعداء مع كل من حوله، وكل من يقف في طريق أنانيته. اما الانسان المحب للاخرين، والذي انسكبت في قلبه محبة الله، فهو الفرح والسلام، دائم العطاء والتفاعل، يحب الجميع. ويحبه الجميع، يسعد الاخرين بحبه، ويسعد هو بحب الآخرين، وشعاره المفضل في الحياة هو: "كن معطاء تعش سعيدا". الانسان مخلوق اجتماعي، فمن الزواج، الي الاسرة، الي الكنيسة والمسجد، الي الوطن، الي البشرية... يحقق انتماءه في دوائر متتالية، تتسع شيئا فشيئا قدر ما اتسعت جدران قلبه، بسبب سكيب الحب الإلهي في داخله! ولعل لنا في القديس الأنبا بولا، في القرن الرابع، انموذجا رائعا في الانتماء، وهو الراهب المتوحد لعشرات السنين، لا يري انسانا، ولا يراه انسان، فحينما التقي به القديس الانبا انطونيوس وجدناه يسأله عن أمرين: الاول هو كفاح القديس اثناسيوس ضد الاريوسية، وذلك نتيجة انتمائه للكنيسة المقدسة. والثاني عن ومدي انتظام فيضان النيل، وذلك نتيجة انتمائه للوطن الأم. الإنسان المتدين تدينا سليما، يتحد ببقية مواطنيه، بل حتي بكل الجنس البشري عموما.. يحس بآلامهم ويفرح لافراحهم، ومن هنا تكون المشاركة والتفاعل. 3- الانتماء احتياج روحي: والانتماء ايضا احتياج روحي، اذ كيف استطيع ان امارس حياتي الروحية بدون الآخر؟ الآخر فرصة حب، وتعاون، وتعلم، وقدوة، واحتكاك، وتلمذة، واكتساب فضائل ونمو روحي.. فحتي لو ضايقني الآخر، فهنا اتعلم الحب!! فالحب البشري هو الحب بسبب "أي لاهداف واغراض ومنفعة"، اما الحب الالهي فهو الحب بالرغم من اي حتي الاعداء احبهم لانهم يعلمونني الصفح والحب، حينما اخذ في قلبي هذا الحب الإلهي القادر علي الصفح والعطاء. ان الرب قبل ان يخلق حواء، اشعر آدم بالحاجة الي الآخر من خلال مرور الحيوانات والطيور امامه، اذ وجد كل نوع منها ذكرا وانثي، "واما لنفسه لم يجد معينا نظيره" (تك 2 : 20) ، ولما شعر آدم باحتياجه هذا، خلق الرب له حواء من احد ضلوعه، من منطقة الوسط، حتي لا تتسيد عليه أو تستعبد له، بل تكون نظيرا مساويا، قريبا من القلب ومحبوبا. ومن خلال هذا الاتحاد الزيجي المقدس، يكون العطاء للآخر وعطاء الزوجين للاولاد، والمجتمع، امتدادا للجنس البشري، واضافة الي عدد وارثي الملكوت. لاشك ان الاحتكاك بالآخر هو طريق النمو الروحي والديني، وطريق واكتساب الفضائل المباركة.