عمدت إسرائيل، خلال العام المنصرم، إلي مواصلة السعي للإجهاز علي ما تبقي من العملية التفاوضية مع الجانب الفلسطيني وذلك بتكثيف المحاولات الهادفة إلي تهميش أو إلغاء "الشريك الفلسطيني" حتي النهاية، وطرح مشاريع تسويات أحادية الجانب (كالانسحاب من طرف واحد) بحجة عدم وجود شريك فلسطيني للتنسيق معه، تماماً مثلما حدث عندما انسحبت من قطاع غزة. وهدف الحكومة المقبلة هو الترويج لمشروع "ترسيم الحدود النهائية والدائمة لإسرائيل" من جانب واحد ووضع العالم أمام أمر واقع جديد في فلسطين والمنطقة. وخطة أولمرت/ شارون للانتقاص من "ثوابت" الحقوق الوطنية الشرعية الفلسطينية تعتبر القضية الأساسية والمركزية المطروحة علي أجندة إقامة الحكومة الائتلافية الجديدة برئاسة إيهود أولمرت والتي بموجبها أجري حزبه "كاديما" مشاوراته مع أحزاب "العمل" و"شاس" و"ميريتس" و"إسرائيل بيتنا" ويهودات هاتوراه". ويبدو أن إسرائيل ستركز، في الفترة المقبلة، علي مواصلة التعامل مع القضية الفلسطينية ومع الدول العربية من خلال سياستها ورؤاها بصورة أحادية دون تقديم تنازلات من طرفها، إضافة إلي محاولة نقل اهتمامات العالم إلي ميادين الصراع الأخري، مستفيدة من الشلل العربي شبه التام، وضعف تأثير وفاعلية الدور العربي علي الساحة الدولية، ومن العطاء غير المحدود الذي يوفره دعم الإدارة الأمريكية، والصمت شبه المطلق من قبل الاتحاد الأوروبي عما يجري علي الساحة الشرق أوسطية بشكل عام. والخطة التي ينوي إيهود أولمرت (رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلف) بتنفيذها هي امتداد لخطة شارون التي علي أساسها انسحب من قطاع غزة. والهدف من خطة "التجميع" كما أسماها أولمرت، هو بكل بساطة، ضم أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية شبه الخالية من السكان الفلسطينيين مع "إعادة" المناطق ذات الكثافة السكانية العالية. إن المدلول السياسي لهذه الخطة هو إعادة إنتاج السياسة الشارونية الكارثية علي عملية السلام بفرض وإملاء حل إسرائيلي بالقوة من طرف واحد. وهو حل لا يلبي الحد الأدني من الحقوق الفلسطينية (أي قيام دولة متواصلة جغرافياً وقابلة للحياة اقتصادياً) بالإضافة إلي حقوق الشعب الفلسطيني في القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. كما أنه حل يرسخ أقدام الاحتلال "الاستيطاني" في مناطق الضفة الغربية وعزل وادي الأردن ليتم بذلك فصل الضفة، أو بالأحري ما تبقي منها داخل "غيتو" واحد كبير تماماً كما حصل مع قطاع غزة. وتعتمد خطة أولمرت علي وسيلتين مترابطتين: الأولي هي الانسحاب من البؤر "الاستيطانية" المبعثرة غير المهمة استراتيجياً، ناهيك عن تكلفة حمايتها المرتفعة حيث إن عددها يصل إلي العشرات، وتجميع سكانها في "المستوطنات" الكبيرة المحيطة بالقدس التي تقوم الحكومة الإسرائيلية منذ فترة بضمها وستواصل ذلك في أية عملية سلام! أما الوسيلة الثانية فهي اعتبار جدار الفصل العنصري المقام داخل الأراضي الفلسطينية بمساحات متفاوتة حدوداً سياسية لإسرائيل. وبذلك، يضم الجدار إلي حدود إسرائيل السياسية الجديدة الكتل الاستعمارية "الاستيطانية" الضخمة ومساحات واسعة من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. ومن الناحية الديموجرافية، سيدخل الجدار حوالي 48 "مستوطنة" مستعمرة يهودية إلي الشرق داخل الحدود الجديدة لإسرائيل، بحيث يضم 171 ألف "مستوطن" من "مستوطني" مستعمري الضفة في الحدود الجديدة. وبما أن هذا السور يبني شرق مدينة القدس، فهذا يعني تثبيت الاحتلال الإسرائيلي لهذه المدينة وتحقيق أغلبية يهودية داخل هذه المنطقة. ومن الناحية الجغرافية، سيكون الجدار معول هدم للحل المبني علي دولتين، إذ إنه سيفصل شمال الضفة عن جنوبها، ويفصل مدينة القدسالشرقيةالمحتلة عن محيطها الفلسطيني، ويمزق الوحدة الإقليمية للأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، مخلفاً كانتونات منعزلة بعضها عن بعض، وبالتالي يحرم الشعب الفلسطيني من حقه الأدني (بموجب "خريطة الطريق" ورؤية الرئيس بوش للحل النهائي) بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات مقومات طبيعية قابلة للحياة. تظهر التركيبة الجديدة ل"الكنيست" الإسرائيلي أن هناك ما بين (65 _ 85) عضواً من أعضائه المائة والعشرين تؤيد خطة أولمرت التي ستساهم عند تنفيذها مساهمة فعالة في إزالة كابوس إسرائيل الديموغرافي وهو الكابوس الذي ما فتئ يؤرقها منذ إقامتها، بالإضافة إلي كونه يحقق رؤية إسرائيل في الدولة الفلسطينية التي فيما إذا قامت ستكون أول دولة في التاريخ لا تتمتع بحق السيادة علي حدودها الخارجية، حيث إن هذه جميعها ستكون في أيدي إسرائيل وتحت مراقبتها اللصيقة بوسائل تكنولوجية معقدة وكاميرات فيديو وطائرات استكشاف! وهذه الخطة هي جزء لا يتجزأ من الهجمة الاستراتيجية الغربية ضد شعوب وسيادة بلدان المنطقة التي تستهدف ثروات ومقدرات الأمة العربية. وتعتمد الحكومة الإسرائيلية طور التشكيل، كما سابقتها، علي نجاح خطتها في تضليل الرأي العام العالمي والأسرة الدولية، مستندة إلي قاعدة أن جوهر الصراع في المنطقة ليس احتلالاً إسرائيلياً غاشماً وهضماً لحقوق شعب بأكمله، وإنما هو (!!!) صراع بين "أمن إسرائيل الدولة الصغيرة المغلوبة علي أمرها" وبين "الإرهاب" الفلسطيني الذي يهددها وأمن شعبها. إن هذا الخلط بين المقاومة و"الإرهاب" (الذي يبدو أن العالم الغربي، علي الأقل، قد بدأ يتقبله) هو عماد خطة أولمرت. وفي هذا السياق، تقوم إسرائيل بتوظيف نجاح حركة "حماس" في الانتخابات الأخيرة وتشكيلها الحكومة الفلسطينية، بوصفه هدية هبطت من السماء علي إسرائيل التي تعتبر، كما الولاياتالمتحدة، "حماس" حركة "إرهابية" وبالتالي "تقدم" كافة الأعذار لإسرائيل للهروب من التزاماتها! لذلك، لجأت إسرائيل إلي سياسة التجويع ومحاصرة الشعب الفلسطيني ومحاربته في رزقه اليومي، مع تصعيد أعمال القتل والتدمير بدعوي أن حكومة فلسطينية بقيادة "حماس" لا تعترف ب "حق دولة إسرائيل في الوجود"، ولا تلتزم بتنفيذ الاتفاقات والمعاهدات الإسرائيلية الفلسطينية ولا تجرد نفسها أو الفصائل الأخري من السلاح! ومعروف أن الظروف الإقليمية التي تواجه العديد من دول المنطقة تخدم حالياً مصلحة إسرائيل ومخططاتها، ذلك أن التوتر في بعض دول المنطقة يصرف أنظار الرأي العام العالمي عن تصعيد المحتل الإسرائيلي لجرائمه ودفع عجلة مخططه الاستراتيجي. فالوضع المتأزم في العراق ووصول هذا البلد لحافة الحرب الأهلية، وكذلك توتر الأوضاع في لبنان وزرع بذور الفرقة والفتنة الطائفية فيه، وتصاعد المواجهة مع إيران وسوريا، كلها عوامل تساهم مساهمة كبيرة في صرف الأنظار عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. ومع ما يمتلكه الشعب الفلسطيني من وعي واستعداد للتضحية، دفاعاً عن حقه في الحرية والسيادة، سيفشل هذا المخطط الاحتلالي التوسعي الأحادي الجانب المعادي للتسوية، مهما طال الزمن... فهل نستطيع قول ذلك عن النظامين الرسميين العربي والإسلامي؟!