بعد انتهاء الحرب الباردة واختفاء خطر التهديد النووي المتبادل بين القوتين الأعظم، تبدلت الأولويات الأمنية لدي الولاياتالمتحدة وحلفائها في المعسكر الغربي، وظهرت إلي السطح مجموعة جديدة من المفاهيم حول التهديدات الأمنية. ومع أن الظواهر التي حاولت هذه المفاهيم بلورتها لم تكن جديدة تماما، فقد كانت موجودة طول الوقت وإن كانت الأولوية القصوي التي حظيت بها المخاطر النووية منعتها من الفوز باهتمام مناسب. ومن بين هذه المخاطر والمفاهيم المستجدة ظهر مفهوم "الدول الفاشلة" باعتبارها تهديدا للأمن الإقليمي والدولي. والمقصود بالدول الفاشلة هي تلك المجتمعات التي تنهار فيها مؤسسات الدولة، وينهار معها النظام العام والأمن الداخلي، وتشتعل بالمقابل الصراعات العرقية والدينية وأشكال مختلفة من الحروب الأهلية التي يروح ضحيتها آلاف من البشر، كما كان الحال في دول مثل كمبوديا ويوغوسلافيا ورواندا والكونجو، أو أن يؤدي انهيار النظام والأمن إلي تحويل البلد إلي مركز جذب لجماعات إرهابية متطرفة أو لعصابات إجرامية تجد فيه ملاذا آمنا من ملاحقة القانون والسلطات. عندما ظهر هذا المفهوم قبل نحو خمسة عشر عاما استقبله أغلبنا بمشاعر سلبية، فالمتفائلون وحسنو النية منا اعتبروه نوعا من الرفاهية الغربية التي تبالغ في أهمية أشياء تافهة من باب "شغل الفراغ". أما المتشائمون والمتشككون المزمنون فقد اعتبروه مفهوما مصطنعا من أجل تبرير التدخل الخارجي في الشئون الداخلية لدول مطلوب إخضاعها لسيطرة الخارج، بما في ذلك مصر ودول عربية أخري. المهم هو أننا انشغلنا عن حكاية "الدول الفاشلة" بهمومنا القديمة-الجديدة، غير أن تطورات الشهور الأخيرة فرضت علينا هنا في مصر إعادة النظر في هذا المفهوم، وربما إعادة الاعتبار له، وذلك بعد أن تطورت الأمور من حولنا وفي جوارنا القريب بشكل جعل من مصر بلدا محاطا من أكثر من اتجاه بعدد من الدول الفاشلة أو المرشحة للفشل، أو علي الأقل دول لا يمكن استبعاد الفشل من بين السيناريوهات الجادة لتطور الأوضاع فيها. ففي السودان، الذي هتف مصريون مازالوا أحياء بيننا في شبابهم لقداسة الوحدة بينه وبين مصر، والذي قال عنه النحاس باشا "تقطع يدي ولا يفصل السودان عن مصر"، هذا السودان نفسه يمر اليوم بمرحلة عصيبة. فبعد عقد ونصف من حكم الأخوة الإسلاميين، راح السودان يتفكك. فبعد أن كانت هناك حرب أهلية واحدة في الجنوب، باتت هناك حروب أهلية عدة في الشرق والغرب، وبعد أن كنا قد تفاءلنا باتفاقية سلام الجنوب التي تم التوصل لها مع المقاتلين الجنوبيين، فإن التلكؤ والمناورات التافهة تهدد بجعل سنوات الانتقال الست التي نصت عليها الاتفاقية تبدو كما لو كانت سنوات انتقال تمهد لانفصال الجنوب وتقسيم السودان، حتي أن اتصالات قد بدأت لفتح ممثليات جنوبية في عدد من عواصم الدول الكبري. أما في الغرب السوداني فإن التمرد الذي بدأ صغيرا قبل أربعة أعوام تحول إلي حرب أهلية كاملة المعالم، وراح نطاق الحرب يتسع حتي باتت تهدد بتفجر صراع مسلح بين السودان وجارته تشاد. وبعد إخفاق جهود الاتحاد الأفريقي وقوات المراقبة التي أرسلها إلي إقليم دارفور، يتجه مجلس الأمن لإصدار قرار باستبدال بعثة المراقبة الأفريقية بأخري أممية ينشئها ويشرف عليها مجلس الأمن، في نفس الوقت الذي تنظر فيه هيئة تحقيق مخولة من جانب مجلس الأمن في مسئولية قادة كبار في حكومة السودان عن أعمال الاضطهاد التي تعرض لها مئات الآلاف من أبناء إقليم دارفور من غير العرب. وبينما افتتح الأخوة الإسلاميون في السودان عهدهم بتبني جماعات الإرهاب الأصولي المصرية، إلي حد التورط في دعم محاولة اغتيال الرئيس المصري في العاصمة الأثيوبية، فإنهم، وبعد أن كفوا عن دعم الإرهاب، مازال السودان الذي صنعوه، أعني دمروه، يمثل خطرا علي الأمن القومي لمصر. فقد بات السودان طاردا لعشرات الألوف من أهله، وما أزمة اللاجئين السودانيين الأخيرة في ميدان مصطفي محمود سوي مظهر لذلك. وبسبب النفوذ الأجنبي الكثيف الذي يتجمع علي حدودنا الجنوبية تم وضع مزيد من القيود علي حرية الحركة المصرية في مجال اعتادت مصر اعتباره حيويا. أما الاحتمالات المتزايدة لاستقلال جنوب السودان فإنها تفرض علي مصر إعادة حسابات كثيرة بشأن أمن موارد المياه والوضع الجيواستراتيجي في منطقتي البحيرات وشرق أفريقيا. أما إذا نظرنا ناحية الشرق فسنجد قطاع غزة وقد ظهرت عليه منذ عدة شهور علامات الانهيار الأمني، الذي يسميه الفلسطينيون من باب التلطف "الفلتان الأمني"، فوجدنا جماعات مسلحة ومنظمات سياسية كل منها يدعي حقه في امتلاك سياسة خارجية مستقلة، فالبعض يفاوض والبعض يقاتل والبعض ينفذ عمليات من باب شغل الفراغ وتأكيد الوجود. كما وجدنا جماعات مسلحة متعددة تابعة لفتح تتقاتل فيما بينها وتهاجم قوات الأمن التي تسيطر عليها فتح أيضا، ورأينا عائلات وعشائر ترفع السلاح في وجه السلطة لإجبارها علي الإفراج عن متهمين بخروقات كبري للقانون والنظام، ووجدنا رجال شرطة يضربون عن العمل طلبا للحماية، وآخرين يحتلون مكاتب ومقرات السلطة، ورأينا منفذ رفح يتعرض للإغلاق لأسباب مختلفة. بسبب هذا الفلتان الأمني تعرض أمن مصر للخطر بأكثر من شكل وأكثر من طريقة. فمن الأنفاق العابرة للحدود التي تكاثرت منذ الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة لزوم التهريب والتسليح، إلي اجتياح الحدود المصرية، وتدفق عشرات الألوف من الفلسطينيين إلي الأراضي المصرية دون تأشيرة دخول أو أي تسجيل من أي نوع، إلي إطلاق الرصاص عبر الحدود وقتل عدد من الجنود المصريين، وأخيرا إلي اختطاف دبلوماسي مصري رفيع المستوي في قطاع غزة.لقد أدي إخفاق فتح، والدولة الفاشلة بامتياز التي تسببت في خلقها في قطاع غزة، إلي نجاح حماس في اكتساح الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، وكأنه بات علي مصر أن تقبل علي حدودها الشرقية إما بالفوضي وفشل الدولة أو بحكم أصولي يثير الكثير من علامات الاستفهام والمخاوف. فبينما قد يتسبب الوضع السياسي الجديد في تأجيج العنف في قطاع غزة بين حماس وخصومها، بما يهدد بمزيد من فشل الدولة علي حدودنا الشرقية، فإن نجاح حماس في فرض سيطرتها يطرح نوعا آخر من التهديد يتمثل في مخاطر قيام دولة أصولية علي حدودنا الشرقية، وأيضا في احتمالات تفجر جولة جديدة من المواجهات العنيفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبما قد يجر مصر إلي صراع تتمني لو تجنبت التورط فيه. التطورات المستجدة في الجوار تعيد رسم أولويات التهديد التي تواجه الأمن القومي المصري، والمؤكد أنه لن يكون بمقدور مخططي السياسات الأمنية وصناع القرار في مصر في المرحلة القادمة تجنب استخدام مفهوم الدولة الفاشلة لفهم طبيعة التهديدات الراهنة، وطبيعة الأخطاء التي وقعوا فيها مرحلة سابقة، وفي رسم سياسات أمنية جديدة تحمي أمن هذا البلد، وربما الخروج باستنتاجات تتعلق بأوضاعنا الداخلية أيضا.