أشرنا في مقالنا السابق إلي الحوار الذي دار بمكتبي بين عم سعد ماسح الاحذية وبيني في حضور أحد اساتذة القانون الدولي الخاص عندما سألت عم سعد عما يثبت جنسيته فاحتج بأنه يحمل شهادة ميلاد وبطاقة شخصية وشهادة أداء الخدمة العسكرية وجواز سفر مصريا، وتلك المستندات في نظر عم سعد أدلة دامغة علي أنه مصري الجنسية. لا يعلم عم سعد أن هذه المستندات ليست لها أي حجية في اثبات جنسيته!! ولا يعلم ان ذلك هو النظام القانوني لاثبات الجنسية، ولا يعلم أيضا ان ذلك هو رأي زائري الاستاذ الذي تعمدت إثارة هذه المناقشة في حضوره، وهو الرأي الذي يرد في مرجعة القيم عن حقوق الجنسية. لا أعتقد ان عم سعد سوف يحتاج أو يضطر يوماً ما إلي اثبات جنسيته. ولا أعتقد، بل أجزم ان أحداً لن ينازعه في ذلك، فهو رجل رقيق الحال لايملك من الدنيا شيئا إلا صندوقه الصغير المملوء بزجاجات الورنيش. ولن يرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب أو أي مجالس نيابية أخري، ولن يمارس حقوقه السياسية من الانضمام لحزب من الاحزاب أو تكوين حزب.. هنيئا لماسح الاحذية بالاطمئنان التام علي مصريته مستنداً إلي ما يحمله من وثائق رسمية صادرة من الدولة ذاتها، ولن نحاول اقناع عم سعد بأن النظام القانوني لاثبات الجنسية لايعترف به كمصري الجنسية وله أن "يبل هذه المستندات ويشرب ماءها"، فالمنطق والعقل يقفان بجانب عم سعد بالتأكيد، فأين النظام القانوني لاثبات الجنسية من العقل والمنطق؟!! ان الجنسية هي حق من حقوق الانسان أكده الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر سنة 1948 وهي من الحقوق الاساسية باعتبارها من المكونات للشخصية القانونية للفرد، وهي علاقة بين الفرد والدولة، فالدولة وحدها بوصفها كيانا سياسيا معترنا به دوليا هي التي تمنح جنسيتها دون غيرها من أي جماعات حتي لو كانت من أشخاص القانون الدولي العام، فالدولة هي التي تمنح جنسيتها للافراد الذين يتلقونها، وهي التي تتولي وحدها تحديد عنصر الشعب فيها، لارتباط الجنسية إرتباطا وثيقاً بكيان الدولة باعتبار انها تتعلق بالركن الاساسي في تكوين الدولة وهو ركن الشعب وتكمن اهميتها في التفرقة بين الوطني والاجنبي.. ولكن صاحب الحق والجنسية المصرية قد لا يستطيع اثبات ذلك الحق الذي "يدعيه"!! وهنا يثور التساؤل الآتي: وهل يطلب من المصري ان يثبت انه مصري، ولماذا وكيف يكون ذلك؟ والاجابة ان المواطن قد يضطر إلي اثبات انه مواطن أي متمتع بالجنسية المصرية لما يترتب علي ذلك من تمتعه بحقوق أخري كفلها الدستور والقانون للمواطنين، مثل ممارسة الحقوق السياسية، وقد حدث فعلاً بمناسبة انتخابات مجلس الشعب التي جرت في مصر عام 2000 أن اثيرت لاول مرة قضائية حيث لجأ بعض المتنافسين علي عضوية مجلس الشعب إلي الطعن في أحقية خصومهم في الترشيح ولجأوا في سبيل ذلك إلي التجريح والتشكيك في مواطنتهم، وذلك علي رغم أن المطعون ضدهم مصريون، وفات علي الخصوم المطعون ضدهم انه كان ومايزال يوجد سلاح أمضي من سلاح ازدواج الجنسية، كان بوسعهم ان يشهروه بدورهم في وجه خصومهم، ولكنهم لم يفطنوا إليه، ولو فعلوا لكان من الامر ما كان، وها نحن نلفت نظرهم إليه. أما هذا السلاح الذي يمكن لمزدوج الجنسية الدفاع عن نفسه وان يشهره في وجه خصومه الذين يتهمونه بعدم الولاء والانتماء فهو ان ينازع خصمه "المصري" في جنسيته المصرية ويطالبه باثبات انه مصري الجنسية!! ومن الاسباب التي تدفع المواطن أيضا الي اثبات انه مواطن هو حماية اولاده من بعده، من منازعتهم في جنسيتهم، ولسوف يعجزون عن اثباتها في الغالب، خاصة الجنسية المبنية علي حق الدم، أي الميلاد لاب مصري، باعتبار ان الاب اذا اثبت جنسيته المصرية، فإنها تثبت ايضا لأولاده ويكونون حينئذ بمنجي من الطعن في جنسيتهم ويمكن لهم اقامة الدليل عليها امام القضاء اذا جرت منازعتهم فيها. كما ان المواطن المصري قد يجد نفسه مضطرا إلي اثبات انه مواطن مصري اذا نازعه في جنسيته أي صاحب مصلحة لكي يتملك الاراضي الزراعية والعقارات التي يحظر علي الاجانب تملكها أو توجد قيود عليهم في هذا الشأن، ليس ذلك فقط بل ان المواطن يمكن ان يتعرض لمنازعة في مواطنته عند انضمامه للاحزاب السياسية أو شغله لوظيفة عامة في الدولة، علي اساس ان الوظائف العامة يقصر شغلها علي المواطنين، أو عند ترشيحه أو تعيين في عضوية الحكومة حسبما ورد في الدستور، والتي تتكون من رئيس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم، ويشترط فيمن يشغلها ان يكمن مصري الجنسية، من ذلك أيضا ان القانون رقم 59 لسنة 1981 بشأن الشركات المساهمة والمسئولية المحدودة والتوصية بالاسهم قد اشترط ان تكون أغلبية اعضاء مجلس الادارة في أي شركة مساهمة من المتمتعين بجنسية جمهورية مصر العربية. والحالات التي أشرنا إليها انما هي علي سبيل المثال فقط لانه يصعب حصر الحالات التي يضطر فيها المواطن إلي اثبات انه مواطن لما يترتب علي ذلك من حقوق دستورية وقانونية مثل الزواج والطلاق ورفع الدعاوي القضائية والالتحاق بالمدارس والجامعات والمعاهد العليا والكليات العسكرية، وتولي الوظائف القضائية والوظائف العامة في مرفق التعليم مثل اساتذة ورؤساء الجامعات.. وهكذا. ان أي حق يحتاج إلي اقامة الدليل عليه أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون اذا جرت منازعة حوله. واذا كانت الجنسية المصرية هي حق من حقوق الانسان المصري، فإن القانون هو الذي ينشئ الحق ويفرض احترامه ويحميه، واذا كان المصريون يظنون انهم مصريون بناء علي المستندات والوثائق الصادرة من الدولة ذاتها فهل هذا الظن صحيح؟ ان موضوع اثبات الجنسية بوصفها من أهم حقوق الانسان يعكس الفكر السائد في النظام القانوني المصري الذي يجنح احيانا إلي الغلو والتنطع وهو التشدد في غير موضع التشديد وقد دعا النبي الكريم بالهلاك علي المتنطعين ثلاث ابقوله صلي الله عليه وسلم بصيغة الخبر "هلك المتنطعون" ونحن نضع امام القارئ تلك الاسئلة التي سوف نحاول الاجابة عليها في هذه المقالات: 1 إذا كان المواطنون هم عنصر الشعب في الدولة فمن هو المواطن اساساً لكي نعرف من هو الشعب المصري؟ 2 هل يتصور ان يطالب المواطن باثبات انه مواطن ومتي يكون ذلك ؟ 3 كيف للمواطن ان يثبت انه مواطن؟ وبمعني آخر كيف يمكن للشعب ان يثبت انه شعب؟ 4 هل المستندات الرسمية التي تمنحها الدولة "للمواطن" التي تثبت فيها انه مواطن تعتبر دليلا علي انه مواطن؟ 5 اذا جرت منازعة المواطن في جنسيته وادعي عليه آخر بأنه غير مصري أو طالبه باثبات انه مصري فمن الذي يقع عليه عبء الاثبات بصحة ما يدعيه هل هو المدعي باعتبار ان القاعدة العامة في الاثبات هي أن البينة علي من ادعي، أم ان البينة علي المدعي عليه؟!! 6 اذا اضطر المواطن إلي ان يثبت انه مواطن واضطر الشعب إلي ان يثبت انه شعب فهل طرق اثبات ذلك عادلة تتفق مع العقل والمنطق يمكنه من اقامتها بسهولة ويسر دون حرج أو مشقة أم تتسم بالغلو والتنطع، وفي هذه الحالة سوف يعجز المواطن عن اثبات انه مواطن فماذا بوسعه ان يفعل؟ وكيف تتصرف الدولة حياله؟ 7 أعضاء السلطات الدستورية العامة الثلاث في الدولة، وهي السلطة التشريعية التي أصدرت قانون الجنسية، والسلطة التنفيذية المنوط بها تطبيقه، والسلطة القضائية التي تقضي في دعاوي الجنسية؟ هل هم مصريون فعلا حسب النظام القانوني لإثبات الجنسية الذي يطبق علي عامة الناس، باعتبار انه يشترط لشغلهم تلك السلطات ان يكونوا من المصريين أم لهم نظام خاص لاثبات جنسيتهم؟ 8 اذا كان الدستور المصري قد نص علي ان الجنسية ينظمها القانون، فهذا الدستور لم يكن له القوة الالزامية، إلا بعد ان وافق عليه الشعب في استفتاء عام، والشعب يتكون من مجموع المواطنين في مصر الذي يحملون الجنسية المصرية، وهو العنصر الرئيسي في عناصر الدولة، فاذا كان الشعب لايستطيع ان يثبت انه شعب فهل هو شعب!؟! يقول الشاعر، وأحسبه الشاعر الكبير ابو الطيب المتنبي والله اعلم ومن يعرف قائل هذا البيت من السادة القراء فيخبرني به فله جزيل الشكر: وليس يصح في الاذهان شيء اذا احتاج النهار إلي دليل والمعني ان الشعب اذا لم يستطع ان يثبت انه شعب فلا معني اذن للقول بأن هناك دستورا، ولا حجية له، ولا معني للقول بوجود السلطات الرئيسية العامة في الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فكل ذلك ايضا مشكوك فيه، وهذا المنطق يؤدي في النهاية إلي التساؤل الآتي. هل توجد حقا دولة تدعي مصر؟؟ وإلي لقاء قادم إن شاء الله تعالي