حتي لا يغضب أحد، نضطر كل مرة إلي الإشارة إلي حديث النبي الكريم صلي الله عليه وسلم الذي رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا. والتنطع هو التشدد في غير موضع التشديد وهو المعني الذي نقصده من هذا المقال. ذات يوم من حوالي عامين، زارني في المكتب أحد أساتذة القانون الدولي الخارجي الذين أعتز بصداقتهم منذ زمن بعيد، وكنت في ذلك الوقت قد وضعت اللمسات الأخيرة لرسالتي المنتمية إلي كلية الحقوق بجامعة عين شمس لنيل درجة الدكتوراه في الحقوق في موضوع "إثبات الجنسية في النظام القانوني المصري دراسة مقارنة" والتي جرت مناقشتها في نوفمبر 2005 وحصلت علي درجة الدكتوراة في الحقوق بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف وتبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية ونشرها علي نفقة الدولة. وما أن جلس صديقي الاستاذ الكبير صاحب المؤلفات العديدة في القانون الدولي ومنها مؤلفات في موضوعات الجنسية، وطلبت له القهوة المضبوطة حتي دخل عم سعد ماسح الأحذية، وهو رجل طيب رقيق الحال هادئي بالطباع غرفته منذ أن ألتحقت بالعمل بجهاز الاتصال بمصلحة الجوازات والهجرة والجنسية بمبني المجمع عام 1971، واستمرت معرفتي به حتي تركت المجمع عام 2005. حيث كنت من زبائنه، وهو رجل من آلاف الناس، يكسب قوت يومه من عمل يده ويعول أسرة كبيرة، ويعول أيضا اسرة شقيقه ماسح الأحذية المرحوم جمعة الذي توفي إلي رحمة الله في سن مبكرة بعد صراع طويل مع المرض وربما لم يجد نفقات العلاج، وإذا مرض عم سعد في يوم من الأيام وقعد عن العمل فلن يجد ما يقتات به لا هو ولا أسرته ولا أسرة المرحوم جمعة. جاء عم سعد ليأخذ الحذاء "ولامؤاخدة" فسألته والسؤال اليك يا جارة وهو صديقي الاستاذ: قولي يا عم سعد انت مصري؟! ابتسم وأجاب: لا يا با شا - أنا أصلا من الصعيد ولكن جيت مصر من زمان. قلت: لا موش قصدي اصل الاستاذ ده بيعرف في الاجناس، يعني يبص لوش الواحد كده، يقوم يعرف هو اصلا من مصر وألا من بلد تانية وبيقول ان الظاهر من شكلك كده انك اصلا مش من مصر خالص. أجاب عم سعد متحديا وبثقة اغبطه عليها: يا سعادة البيه أنا معايا بطاقة، وخدمت في الجيش. سألته: علي كده بقي انت عندك شهادة ميلاد؟ أجاب مؤكدا: طبعا يا باشا أمال طلعت بطاقة إزاي سألته: انت عملت جواز سفر قبل كده؟ أجاب: أيوه يا باشا من كام سنة أيام أحمد بك فهمي الله يكرمه "يقصد اللواء أحمد فهمي مدير الجوازات الاسبق" طلع لي باسبور وبعتني أعمل عمرة. أخذ عم سعد الحذاء "ولامؤاخذة" وخرج لتلميعه معتقدا ان هذا الحوار معه هو مجرد مداعبة وتبسط في الحديث من باب جبر الخاطر الذي يقع أجره علي الله سبحانه وتعالي. لم يدر بخلد عم سعد انني كنت اتكلم بجد، وانني قصدت بهذا الحوار ان يسمعه صديقي الاستاذ وان يسمع تلك الاجابة التي جاءت بالفطرة والبداهة ولسوف نخصص لكلمة البداهة ومفهومها حديثا مستقلا لانه شاع استخدامها بين الناس علي وجه خاطيء لقد اخرج عم سعد ما في جبعته من أسلحة تقطع بانه مصري الجنسية وهي شهادة ميلاده، وبطاقته الشخصية وشهادة أداء الخدمة العسكرية وجواز السفر المصري. سألت الاستاذ: هل يعلم عم سعد الحقيقة المضحكة المبكية وهي ان هذه المستندات التي في جبعته لا تعد دليلا بأي حال من الأحوال علي أنه مصري الجنسية حسب النظام القانوني لاثباتها، هل يمكن لي ان اقول له ذلك؟ وإذا قلت له فهل يفهم؟ وإذا فهم فهل سوف يصدقني؟ ان عم سعد يتحدث بالمنطق، فهو يحمل مستندات رسمية صادرة من الحكومة "اقصد بها الأجهزة الحكومية أو الأجهزة الإدارية بالدولة" تقول له فيها أنت مصري وبذلك يكون الأمر قد قضي ولا شك ان مايقوله عم سعد صحيح تماما، فالحكومة لها هيبتها واحترامها وهي محل ثقة الأفراد، والحكومة لا تصدر مستندات عبثية "كده وكده" تقول للفرد انت مصري ثم تطالبه بعد ذلك ان يثبت انه مصري إذا لزم الأمر، والمستندات التي تصدرها الدولة صحيحة ولها حجتها أمام الجميع. كل ذلك صحيح، ولكن النظام القانوني لاثبات الجنسية المصرية لا يعترف بهذه المستندات أو غيرها فهل يصدقني عم سعد إذا قلت له ذلك؟ أجاب صديقي الاستاذ: لا والله "عندك حق" لن يصدق فهذا كلام غير معقول! كانت تلك هي الاجابة التي وددت سماعها من الاستاذ الذي كان يصفني بانني "باحث عنيد" لا اختلف معه فقط في الرأي وانما احاول ايضا ان اقنعه بآرائي والسؤال الآن: من الذي علي حق؟ عم سعد ام النظام القانوني لاثبات الجنسية؟ أشعر الآن ان أحد أوبعض السادة القراء وربما يكونون من المشتغلين بالقانون قد اغتاظ ويريد ان ينفجر في وجهي بهذاالسؤال: هو فيه أيه؟ ما هو كم سعد وكل كم سعد ما شي في حالة اهه لم يتعرض لهم أحد، يبقي أيه الموضوع بقي؟ أنت عامل الفيلم ده ليه؟! اقول للقاريء السائل: أهدأ يا سيد أنت لا تعلم ما يكنه لك النظام القانوني لإثبات الجنسية إذاتعرضت لموقف يفرض عليك اثباتها فالقانون هو الذي ينشيء الحق ويكفل احترامه ويحميه، وتلك المستندات - حسب ذلك النظام - لا تعتبر دليلا عليها لانه ببساطة لا يوجد نص قانوني - وذلك النظام - يحترم حجتها من الاثبات، ومن - ثم فإن عم سعد والسبعين مليون عم سعد الذين يحملون هذه المستندات ويظنون انهم مصريون بناء عليها، يلبسون ثوب المواطنة علي غير الوجه الذي يلبس عليه!! وإذا كانوا يتخذون من تلك المستندات غطاء لهم يسترهم بستر الجنسية المصرية، فهم في الواقع ومع الاسف - عرايا وبمعني آخر بلغة العامة "المتغطي بها عريان"!! لا داعي لان يعرف عم سعد ذلك، فتلك المعرفة لن تفيده في شيء ولن تضره في شيء، فهو رغم بساطته ورقة حاله يحوز المنطق الذي يغلب كل شيء، وأنا أؤكد ان أحدا لن ينازعه في جنسيته المصرية أو يطالبه باثباتها فلا هو يملك أرضا متسعة يحظر علي الأجانب تملكها ويريد خصمه أخذها منه، ولن يرشح نفسه لعضوية أي مجلس من المجالس النيابية ويريد خصمه التشكيك في جنسيته لا مصلحة لأحد في منازعة عم سعد في جنسيته لانه لا يملك من الدنيا الغانية إلا صندوقه الخشبي الصغير الذي يحتوي علي زجاجات الصبغات وعلب الورنيش لتلميع الأحذية "ولا مؤاخذة" ولن ينازعه ماسح أحذية آخر في ملكية ذلك الصندوق وإذا حدثت منازعة فسوف تحل بين ماسحي الأحذية بالطرق الودية، لأنه في أوساط هؤلاء العالم الغلابة تسود قيم ومثل عليا فطرية قد لا تجد لها محلا من الاعراب في أوساط أخري. لك كل التحية والسلام والاحترام يا عم سعد انت وجميع عم سعد الذين يجدون لقمة العيش الشريفة في مسح أحذية الآخرين "ولامؤاخذة". لا تشغل نفسك ياعم سعد ودعنا فنحن نجادل البكوات الذين يأكلون العيش علي أمثالكم الذين يكونون ركن الشعب في الدولة فلولا انتم ما تحدث أحد وأكل العيش من تعريف الدولة وأركان الدولة وتعريف الشعب وطرق اكتساب الجنسية واثباتها وما إلي ذلك لا تشغل نفسك يا عم سعد بما سأقوله في الاسبوع المقبل حول طريقة اثبات الجنسية المصرية "وتوكل علي الحي الذي لا يموت" حفظلك الله يا عم سعد "فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين".