هذه مدينة ساخطة وناقمة على سلطة الدولة . لكنها هزمت الدواعش وخيبت رهانهم على بيئة حاضنة لاقامة "امارة اسلامية" لهم هنا في الجنوب التونسي وعلى مقربة من الحدود الليبية . بن قردان تعلن عن تمردها حتى قبل ان تصل اليها برا من العاصمة تونس عبر رحلة الخمسمائة وخمسين كيلوا مترا . وقبل ان تبلغ مدخل المدينة الجنوبي تتكاثر على جانبي الطريق أكشاك بدائية اقيمت حيثما اتفق لبيع جراكن البنزين والمازوت المهرب من ليبيا .وأيضا لصرف العملات الأجنبية وبخاصة الدولار الأمريكي خارج البنوك وبالمخالفة للقوانين الصارمة المقيدة لتداول النقد الأجنبي بتونس . لكن بعد الهجمات الإرهابية المتزامنة يوم 7 مارس الجاري داخل المدينة واغلاق السلطات لمعبر بن جدير الحدودي مع ليبيا على بعد 32 كيلوا مترا منها فإن مرافق هذه التجارة غير الشرعية لكنها معلنة ومتغاضى عنها تبدو مهجورة تماما . وبالأصل فإن حركة السيارات القادمة والمغادرة لبن قردان محدودة أو شبه معدومة. " الكناترية " أو المهربون الذين يقبضون على اقتصاد المدينة يبدو وكأنهم أخذوا عطلة اضطرارية . لكن هذه المرة بسماحة النفس و بالتوافق مع سلطة الدولة بهدف مطاردة فلول الدواعش في المدينة . وبن قردان التي انتفضت غير مرة منذ زمن الرئيس المؤسس لدولة الاستقلال الحبيب بورقيبة احتجاجا على محاولات وقف التهريب أو الحد منه بما في ذلك نوبات من إغلاق بن جدير هاهي سمحة قانعة متحملة هذه المرة . لكن المعاناة تتبدى ليس فقط في كساد تجارة السوق السوداء للعملة مما حدا بمحلات البيع المنتشرة المتجاورة في شارع بوسط المدينة الى الإغلاق أو الى ان يفتح القليل منها بلا طائل . فالشارع شبه مهجور .تماما مثل الفنادق التي خلت من الاشقاء الليبيين أو قاصدى التجارة الموازية والتهريب مع ليبيا من داخل تونس . شارع السوق السوداء للعملة هذا يقع على بعد أمتار معدودة من مركزي قوات الأمن اللذين هاجمهما الدواعش قبل أيام . وأبلغني صاحب أحد متاجره " الطاهر لاشين " بأن كل المتاجر بدون ترخيص وان تاريخ هذا السوق غير الرسمي للعملة الأجنبية يعود الى ما بعد عام واحد من وصول الرئيس المخلوع زين العابدين بن على الى السلطة .وتحديدا عام 1988 . فقد سعى الى استرضاء أهل بن قردان بمصالحة مع العقيد معمر القذافي . لكن عندما حاول فرض قيود على التجارة الموازية والتهريب في عام 2010 انتفضت المدينة ضد " الزين ". وهو أمر تكرر غير مرة حتى بعد ثورة 14 يناير 2011. لكن ليس كل غضب المدينة على سلطة الدولة ورموزها الحاكمة لأسباب تتعلق بحرية التجارة الموازية والتهريب . فبن قردان المحرومة من حظوظ تنمية الدولة وخلق فرص العمل لشبابها العاطل تعيش معظم سنواتها بعد الاستقلال في عقد غير مكتوب مع السلطة . وهو عقد يقوم على عبارة موجزة بسيطة :" دعهم يتاجرون في التهريب كي لايثيرون المشاكل ". لكن ثمة موجات من النقمة والسخط عرفتها المدينة لأسباب تتصل بالسياسية و بالثقافة السياسية . وفي نوفمبر عام 2014 عرفت شوارعها مظاهرات عارمة واحداث عنف ضد رموز ومرافق السلطة والطبقة السياسية الحاكمة إثر ما اعتبره الجنوب التونسي عموما تلميحات غير لائقة وحاطة بالكرامة أطلقها في فضائية " فرنسا 24" المرشح الرئاسي حينها والبورقيبي العتيد "الباجي قائد السبسي ". وبدا حينها وكأن المدينة تستعيد تاريخا من الخصومات والحساسيات بين اليوسفيين والبورقيبيين .وكذا بين أهل الساحل الأكثر حظا في التنمية وحضورا بين الطبقة السياسية وفي الحكم وبين أهل الجنوب والداخل . وعلى خلاف غالبية ولايات البلاد فإن ولاية مدنين التي تتبعها بن قردان منحت في انتخابات 2014 غالبية اصواتها لنواب حزب النهضة الإسلامي وايضا الى الرئيس السابق منصف المرزوقي وضد السبسي . ولقد جلب هذا السلوك التصويتي عليها المزيد من نقمة إعلام العاصمة ونخبتها الحداثية. لكن الجديد هذه الأيام ان هذا الإعلام نفسه يمارس مايشبه عملية رد اعتبار للناس هنا على وقع تعاونهم مع قوات الجيش والشرطة في هزيمة الحلم الداعشي باقامة امارة لتنظيم الدولة الاسلامية ببن قردان . ولعل الوصف الأكثر شيوعا الآن مع استدعاء كل مفردات الفخر الوطني هو " ملحمة بن قردان وأهلها " . كما لاتخلو تصريحات المسئولين والساسة في العاصمة بما في ذلك البورقيبيين من تفهم لحاجة سكان بن قردان لممارسة التجارة الموازية ولأنشطة التهريب . بل تتبدى في هذا الخطاب الجديد التفرقة بين تهريب اجرامي وتهريب أبيض لا ضرر منه وعلى قاعدة "دع أهلها يهربون ويعيشون طالما الدولة لم تقدم لهم فرص العمل والأنشطة الاقتصادية المنتجة ". في العاصمة وبقصر القصبة مقر الحكومة لم تكن اجابة " ظافر ناجي" المستشار الأعلامي لرئيسها الحبيب الصيد حاضرة عندما سألت عن تعداد المعتمدية ببلداتها وقراها والمدينة العاصمة لها . هذا مع انه ورئيس الحكومة كانا عائدين للتو من زيارة بن قردان . ولقد استمعت من آخرين الى أرقام متباينة بهذا الشأن وان بدا أكثرها ترددا واقترابا من المصداقية هنا في بن قردان ذاتها هو 80 ألفا للمدينة عاصمة المعتمدية و120 ألفا في كل المعتمدية . وفقط هناك نحو ثلاثة آلاف مواطن يعملون في وظائف ثابتة بالدولة معظمهم في قطاع التعليم كما قال "محمد لملوم " النقابي بفرع اتحاد الشغل (العمال) في بن قردان . ويعزز الوعي بضعف فرص العمل في أي نشاط انتاجي الى جانب جهاز الدولة وبيروقراطيتها اجابة " لملوم " على سؤالي عن عدد الاعضاء المنتسبين لاتحاد الشغل في المتعمدية . قال :" أقل من ألفين وفقط ". وهذه المدينة لاتعرف بعد الصرف الصحي وغالبية بيوتها بلا مياه صالحة للشرب . ويزيد على كل هذا عدم اقامة أي مصنع ، باستثناء مصنع متواضع لتجفيف الملح يعمل به نحو 45 عاملا فقط . ويضيف الى كل هذا " مصطفى عبد الكبير " أحد اعيان المدينة والناشط في المجتمع المدني قائلا :" ولاية مدنين بالأصل لا تصل اليها السكك الحديدية.. والدولة لم تلتفت الى تنمية المنطقة وتركتنا للمجهول وللاعتماد على التجارة الموازية مع ليبيا ". ولأن الرئيس " السبسي " خص "عبد الكبير" بمقابلة في القصر الرئاسي " قرطاج" يوم 11 مارس الجاري فقد سألته عن النتائج فأجاب :" هناك وعود بتدخلات سريعة عاجلة لتحسين امكانات وخدمات المستشفي بالمدينة و اصلاح المنازل المتضررة من المعركة مع الدواعش وتعهد بزيارات في الطريق لوفود وزارية في قطاعات خدمية ". وبشأن اقامة منطقة حرة تونسية ليبية قال :" وعد الرئيس السبسي ..لكن المشكلة اننا تلقينا هذه الوعود مرارا دون شروع في التنفيذ". وأضاف :" اعتقد بان هناك جماعات ضغط اقتصادية نافذة حريصة على استمرار احتكار المناطق الساحلية بتونس وسيطرتها على التجارة الرسمية والتصدير والاستيراد .. وهم كل مرة يقفون ضد اقامة المنطقة الحرة في بن قردان .. وهكذا ظللنا لعقود وحتى بعد الثورة ووعود حكوماتها المتعاقبة نشعر بأننا نعيش على هامش هذه الدولة ". المعلومات التي تسربت عن الدواعش المهاجمين للمدينة تذهب الى ان بين نحو 49 ارهابيا جرى القضاء عليهم هناك سبعة فقط من ابناء المدينة. وباستثاء هذا فان كل من جرى التثبت من هوياتهم الى حينه جاءوا من مناطق البلاد المختلفة الأخرى . وفي الحالتين فان هناك من كان قد غادر للقتال في العراق وسوريا ثم انتقل الى ليبيا وعاد عبر الحدود بعد الضربة الجوية لمعسكرات داعش في " صبراطة " شهر فبراير الماضي. والروايات التي استمعت اليها ممن التقيتهم في بن قردان تذهب معظمها الى أن الدواعش لم يسيطروا قط على مسجد واحد في المدينة على مدي السنوات الماضية . كما لم يحاولوا فرض فهمهم المتطرف للدين هنا أو هناك بين احيائها وضواحيها. وفقط هناك القليل من السكان يقول بان السلفيين الجهاديين سيطروا على مسجد واحد لنحو عامين قبل ان يجرى طردهم منه قبل نحو سته أشهر . وثمة شبه اتفاق كبير على ان السلفيين الذي يعتقد بانهم الحاضنة الأوسع للدواعش اقاموا علنا خيما دعوية بالمدينة بعيد الثورة وفي ظل حكومة الترويكا بقيادة حزب " النهضة ". ومن يزور بن قردان سيلاحظ طابع سكانها المحافظ . فيندر أن تجد إمرأة بلا حجاب على خلاف العاصمة والعديد من المدن التونسية. لكن لن تلاحظ في هذه المدينة النقاب . وأسماء المحلات التجارية عربية الطابع هي الشائعة والسائدة ويندر ان تجد اسماءا فرنسية او اعجمية كما هو الحال في العاصمة والعديد من المدن الأخرى . لكن عموم الناس هنا أيضا كما في غيرها من المدن التونسية يستهلكون القهوة بانواعها الأوروبية بكثافة ويفطرون في المقاهي صباحا على " الكروسان " و " الجاتو الملفي " . وينفى " محمد الجويلي "باحث الأنثربولوجيا من أبناء المدينة امكانية ان تقوم في المنطقة حاضنة للارهاب والدواعش . ويوضح :" ليس هنا جبال وكهوف تسمح بحاضنة جغرافية .والمجتمع يتكون من قبائل وعشائر عربية .والناس تعرف بعضها البعض . ولسنا هنا كالرقة السورية أو الموصل العراقية نعاني من انقسام وصراع سني شيعي . ولا يوجد عندنا من يشعر باضطهاد طائفي مذهبي فيلقي بنفسه في أحضان الدواعش ". ويضيف :" راهن الدواعش في محاولتهم اقامة امارتهم هنا هذا الشهر على توافر حاضنة اجتماعية.. لكن رهانهم كان ساذجا وفشلوا .والناس في بنقردان محافظون حقا لكنهم معتدلون في تدينهم ". إلا أن مدير دار الشباب بالمدينة " مبروك السياري" مع تأكيده على ان الفكر السلفي دخيل على بن قردان يحذر من ان من وقعوا في نطاق جاذبية السلفية الجهادية وداعش من ابناء المدينة هم ضحايا ظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم هنا . وما تجره من ضعف التكوين الثقافي . وكذا دور القنوات الفضائية السلفية التي تبث من المشرق العربي . ويضيف أيضا الى جانب ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب غياب المرافق الثقافية بالمدينة . فلا دارسينما ولا دار نشر كتب واحدة .ولا محطة اذاعة في الجهة باستثناء ثلاث اذاعات تبث على الانترنت .ناهيك عن ان ميزانية دار الشباب ومعها دار الثقافة محدودة . ومع كل هذا فقد فشل رهان الدواعش على معاناة المدينة وتهميشها وتاريخها الطويل من السخط والنقمة والاحساس بالتهميش ازاء الدولة . وكما أبلغني " سمير ناجي " الناطق باسم نقابة قوات الأمن الداخلي في بن قردان فان أهالي المدينة قاموا بدور بطولي لافشال اقامة إمارة داعش . وأوضح قائلا :" بين الكناترية العديد ممن أمدونا بمعلومات وفيرة ومهمة لتعقب الارهابيين والكشف عن مخازن اسلحتهم .والقليل منهم تعاون مع الارهابيين وقبضنا عليهم . والسكان عموما قدموا مساعدات لوجستية مهمة للقوات .هذا فضلا عن الدعم والتأييد المعنوي". ولعل أبلغ دليل على تجاوز بن قردان لنقمتها على سلطة الدولة ازاء التهميش وغياب التنمية كي تدخل هكذا على خط المواجهة ضد الارهاب هو حالة التلاحم مع قوات الجيش والشرطة في الشوارع .وقد كنت شاهد عيان يوم الأربعاء و قبيل سريان حظر التجول بساعة واحدة على تجمع الأهالي في حي " الأعباش " على ناصية زقاق لمتابعة مداهمة القوات لمنزل يعتقد بأنه لاحد الارهابيين العائدين ، وكيف كانت نقمتهم هذه المرة عل الدواعش . ولكن الأهم في حالة بن قردان تحديدا هو هذا الصبر على المعاناة الناجمة من اغلاق معبر رأس جدير يوما تلو آخر .