منذ الإثنين الماضى أصبحت مدينة بن قردان الواقعة على بعد نحو 500 كيلو متر جنوبى العاصمة تونس حديث وسائل الإعلام العالمية ، لا المحلية في بلدها وحسب . فالهجمات التي شنها إرهابيون فجر هذا اليوم على المدينة استدعت العديد من التساؤلات . لعل أهمها وأخطرها هو هل كانت ثمة حقا محاولة لإقامة إمارة لتنظيم الدولة الإسلامية " داعش" على الحدود مع ليبيا ؟ . الحديث عن الإمارة الداعشية ورد على الفور في بيانات الرئيس "الباجي قائد السبسي" ورئيس الحكومة "الحبيب الصيد" . وهو ما تتبناه بوضوح وسائل الإعلام والصحف في تونس العاصمة . وعند العديد من التونسيين تصديق بهذا التصور .ويختلط في هذا السياق الفخر بهزيمة قوات الجيش والأمن للإرهابيين في معركة بن قردان بالتوجس من مسلسل استهداف الإرهاب لتونس وتأثيراته السلبية على الاقتصاد والسياحة . فبعد هجمات متحف باردو بالعاصمة و فندق سوسة و حافلة الحرس الرئاسي بشارع محمد الخامس بالعاصمة أيضا مارس ويونيو و نوفمبر 2015، هاهو الإرهاب يضرب بهذا العدد من المهاجمين المسلحين وبالآر بي جي وليس بالبنادق الآلية والأحزمة الناسفة والقنابل فقط . وكذلك بهجمات متزامنة على هذا النحو غير المسبوق . صحيح أن خطاب الدعاية الداعشية عما جرى ويجري في بن قردان وكما يتمثل إلى حينه في بيانين بثتهما على شبكة الانترنت مؤسسة "البتار" الإعلامية لم يستخدم قط مصطح " الإمارة الإسلامية " .لكن البيانين تحدثا عن "غزوة بن قردان ".وهو أمر يعود بالذاكرة الى غزوة هجمات الحادي عشر من سبتمبر بالولايات المتحدة .كما ان البيانين يتوعدان "تونس بحرب بلاهوداة " .وينطويان على اعتراف ضمني بفشل " الغزوة " أو " إقامة الإمارة " . ولعل نقطة الالتقاء النادرة بين الخطاب الرسمي في تونس وهذا الخطاب الإرهابى الداعشى هو أن الجانبين يذهبان إلى أن بنقردان مجرد معركة في حرب لم تنته بعد. وبالفعل فإن أنباء المداهمات فى هذه المدينة وما يصحبها من اشتباكات مع فلول الإرهابيين لم تنقطع .كما لاتخلو صحيفة من الصحف الرئيسية الآن بتونس من أنباء عن حملات أمنية في العديد من أنحاء البلاد، وبخاصة المناطق الحدودية والجبلية . وهكذا يتعزز الاعتقاد بأننا إزاء حرب ممتدة جغرافيا ومفتوحة زمنيا. جمع تفاصيل ما جرى في بن قردان من خلال روايات أهل المنطقة أنفسهم وذويهم المقيمين في العاصمة تونس وإعادة تركيب هذه التفاصيل يفيد بخطورة وقائع يوم الاثنين 7 مارس الجاري ويمنح مصداقية لسيناريو محاولة إقامة إمارة داعشية . فإلى جانب الهجمات المنسقة المتزامنة على معسكر للجيش و مقرين للأمن يتبعان وزارة الداخلية استهدف إرهابيون وفي التوقيت نفسه قيادات وعناصر أمنية بالمدينة داخل منازلهم . وأبرز هؤلاء "عبد العاطي عبد الكبير" رئيس فرقة مكافحة الإرهاب هناك والذي استشهد جراء الهجوم على منزله . كما سيطر الإرهابيون لبعض الوقت على وسط المدينة وشوارعها الرئيسية . وثمة روايات هنا عن ان ارهابيين ابلغوا الأهالي كأصحاب المحال انهم أصبحوا في مسئولية " داعش ". ولاشك أن ضخامة أعداد وكميات مخازن الأسلحة المضبوطة و الخسائر في الأرواح يعزز هذا التصور .فالقتلى من الإرهابين 49 حتى يوم الجمعة الماضي بينهم 37 يوم الاثنين نفسه و الشهداء 12 من العسكريين والأمنيين و7 من المدنيين ابناء المدينة أحدهم طفلة عمرها لايتجاوز 12عاما . قراءة وقائع وتفاصيل ماجرى تفيد بأن الإرهابيين لم يكونوا محض قادمين للتو عبر الحدود الليبية التى تبعد نحو 14 كليومترا . ولكن هذا لايمنع فرضية ان العديد من هؤلاء الارهابيين عائدون من ليبيا أو من سوريا والعراق عبر ليبيا وبخاصة بعد الضربة الجوية لمعسكرات داعش في صبراطة فبراير الماضي ومع توقع ضربة أوسع للدواعش في ليبيا قريبا . والتحقيقات أفادت ان 22 جثة تم فحصها هى جميعها لتونسيين لكن مايدعو للقلق أيضا ما نقلته صحيفة " الصباح " أمس الأول عن تقرير للمركز الليبى لدراسات الإرهاب بأن هناك الآن نحو عشرة آلاف إرهابى أجنبي في ليبيا ،من بينهم 3200 تونسى و699 من مالى و 455 سودانيا ثم 111من مصر. لكن المركز أيضا يذهب إلى أن منفذى هجمات بن قردان هم من أبناء المنطقة وكانوا بها منذ مدة طويلة . والواقع أن بن قردان لاعتبارات عدة تغرى الدواعش وغيرهم من الجماعات الإرهابية الظلامية . فعلاوة على الثقافة المحافظة السائدة هناك، فإن المنطقة تعانى معدلات فقر وبطالة عالية وغياب على مر عهود توالت لمسئولية الدولة عن التنمية . ويقوم اقتصاد نسبة كبيرة من سكانها على التهريب والتجارة الموازية مع ليبيا .وثمة أيضا شعور طاغ هناك بالتهميش وبالغربة عن الطبقة السياسية . وفي تفسير ماجرى ببن قردان يبرز سيناريوهان . الأول يقول إن الإرهابيين حاولوا توجيه ضربة استباقية بعدما علموا بتسرب معلومات عن وجودهم المتزايد بالمدينة وبأماكنهم .والثاني يرجح أنها مغامرة محكوم عليها بالفشل لإقامة نقطة ارتكاز لملاذ آمن للارهابيين الفارين من ليبيا الآن وتحسبا للمستقبل القريب . وإذا صح القول بأن داعش فشلت في بن قردان التونسية بينها نجحت مع مناطق بالعراق وسوريا وليبيا فإن الأهم ألا يؤثر استهداف السلفية الجهادية لتونس على مسارها الناجح نسبيا في التحول الديموقراطي واعادة بناء مؤسسات دولة حديثة . وألا يزيد هذا الاستهداف من متاعب البلاد الاقتصادية على نحو يضغط على مسار هذا التحول .