أهدى الشاعر رفعت سلام، ابنته "يارا" ، حبيسة جدران السجن على ذمة قضية خرق قانون التظاهر مع عدد من النشطاء السياسيين، قصيدة نثرية تحت عنوان " 320 يومًا في سجون النظام الغاشم " يقول فيها : ليست رمزًا، لا استعارةً، لا كناية. ليست عصفور قوس قزح يمرح في الفضاء ويغني للشروق الذي لم يئن أوانه. ليست شجرةً تأوي إليها الطيور الهائمة على غير هدًى، تبتني في أغصانها أعشاشها الآمنة. لا؛ وليست الحارس الليلي على بوابات النوم تهش الكوابيس التي تحوم وتصد هجمات البرابرة الذين تسلقوا أسوار المدينة. ليست المسحراتي الذي يوقظ النائمين على أداء الفَرض قبل مطلع الفَجر الوشيك. وليست العرَّاف الذي يطوف بالحواري والأزقة والميادين التي عرفت مذاق الدم، ينبئهم بأن الدم قادمٌ لا محالة، قد يجري أنهارًا أو ينابيع تروي الأرض العطشى لتصحو وتُطلع الأشجار. هي ضحكةٌ بسيطة تَعلق بخط الزَّوال، لا تريم، لا تعرف اليأس والتَّعبَ، ولا تعرفها عوامل التعرية؛ معلقةٌ كالنجم القطبي في متاهة السماء، لا ينطفئ أو يذوي. ضحكةٌ بلا قهقهة، بَل بلا صوت، لكنها تحتل ملامح الوجه، وتأخذه- حتى في أقسى اللحظات- إلى حال من البهجة الغريبة، المعدية، لتنسى تضاريس المكان وتفاصيله، حدود الزمان وشروطه، وكأن الحياة قد صفت فجأةً من أكدارها، وتلاشت الهموم التي تثقل القلب والروح. فكيف يمكن التوفيق بين هذه الضحكة والدموع التي رأيتها تترقرق في عينيها في أول زيارة لي إليها في سجن القناطر؟ كانت الدموع في عينيها والضحكة في وجهها، في آن، وهي ترتمي في حضني، طويلاً طويلاً، لا تريد الخروج، ولا أريد لها الخروج. لم تكن الدموع بُكاءً أو حزنًا، بل لغة سرية لا يستوعبها سواي وسواها، تقول ما تعجز عنه اللغات، ما لو نطقت به لبدا سُخفًا وهذرًا وابتذالاً للحالة والمقام. فهل كانت دموعها أم دموعي؟ لا فَرق. فكيف يمكن التوفيق بين الحلم والكابوس في فتاة تمشي مرَحًا في الشوارع والأسواق، كأنها تحلِّق أو ترفرف في فضاء مُضاءٍ بالنُّجوم الزاهرة، أو الشموس الصغيرة التي لا تعرف الغروب؟ كيف يمكن التوفيق بين الخيال الجامح وقوات الأمن المركزي، والبلطجية، وزنزانة تضم سبع فتيات يطرقن- بقبضاتهن الصغيرة، الهشة- أبواب صُبح عصي يتمنع عليهن إلى حدِّ اليأس؛ فيوصدن أبوابهن في وجهه، ويواصلن الطَّرق بعنفوان جديد؟ لا بأس. لا يأس. فسيواصلن الطَّرق، الطَّرق، الطَّرق.. إلى أن يستجيب الصباح، والرياح، والكائنات النائمة أو المخدَّرة، والماء والنار، والحجر والأشجار، والزمان والمكان، والصمت والصراخ، وهيولَى الخلق والكينونة.. وهي ليست رمزًا، لا استعارةً، لا كناية. هي يَارَا.