غدًا.. انطلاق دور الانعقاد الخامس من الفصل التشريعي الثاني لمجلس النواب    الرئيس السيسى: مشروعات المرحلة الأولى لحياة كريمة تكلفت 400 مليار جنيه للآن    حدث في 8ساعات| الرئيس السيسى يلتقى طلاب الأكاديمية العسكرية.. وحقيقة إجراء تعديلات جديدة في هيكلة الثانوية    محافظ الغربية يودع عمال النظافة الفائزين برحلات عمرة قبل سفرهم إلى الأراضي المقدسة    محافظ القليوبية يشهد تكريم حملة الماجستير والدكتوراه بنقابة المهندسين    "لف وارجع تاني" .. ماذا يعني عودة البناء بقانون 2008 ؟    الرئيس السيسي يوجه رسالة للأسر بشأن تعليم أبنائها    بدء قبول الطلاب ببرنامج «تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي» بحاسبات طنطا    الخارجية الألمانية: الأسد ليس لديه رغبة في حل الأزمة السورية    السيسي: مصر لا تعمل على تزكية الصراعات أو التدخل في شؤون الآخرين    الخارجية تعبر عن قلق مصر إزاء التطورات الأخيرة فى جمهورية السودان الشقيق    هيئة الأركان الأوكرانية: الوضع على طول خط الجبهة لا يزال متوترا    إنريكى يوجه رسالة قاسية إلى ديمبيلى قبل قمة أرسنال ضد باريس سان جيرمان    تعيين محمد رمضان مديرا رياضيا في الأهلي.. مع اختصاصات مدير الكرة والإشراف على التعاقدات والكشافين    تأسيس وتجديد 160 ملعبًا بمراكز الشباب    "طعنونا بالسنج وموتوا بنتي".. أسرة الطفلة "هنا" تكشف مقتلها في بولاق الدكرور (فيديو وصور)    المعمل الجنائي يعاين حريق شقة في الشيخ زايد    التحقيق مع خفير تحرش بطالبة جامعية في الشروق    عروسة قماش ودبابيس.. حيلة تربي مقابر الإمام الشافعي للنصب على مؤمن زكريا    "رفضت تبيع أرضها".. مدمن شابو يهشم رأس والدته المسنة بفأس في قنا -القصة الكاملة    3 أعمال تنتظرها دينا الشربيني خلال الفترة المقبلة    عادل حمودة يكشف أسرار حياة أحمد زكي في "معكم منى الشاذلي" الخميس    الخارجية الأمريكية: إسرائيل أبلغتنا بعمليات قرب حدود لبنان لكنها محدودة    رمضان عبدالمعز ينتقد شراء محمول جديد كل سنة: دى مش أخلاق أمة محمد    جامعة القناة تنظم قافلة طبية بالتل الكبير فى الإسماعيلية ضمن حياة كريمة    طريقة عمل الكيكة العادية، بخطوات سهلة ونتيجة مضمونة    هازارد: صلاح أفضل مني.. وشعرنا بالدهشة في تشيلسي عندما لعبنا ضده    وكيل تعليم الفيوم تستقبل رئيس الإدارة المركزية للمعلمين بالوزارة    وزير الصحة: الحكومة تلتزم بتهيئة بيئة مناسبة لضمان قدرة المستثمرين الأجانب على النجاح في السوق المصري    500 وفاة لكل 100 ألف سنويا .. أمراض القلب القاتل الأول بين المصريين    5 نصائح بسيطة للوقاية من الشخير    هل الإسراف يضيع النعم؟.. عضو بالأزهر العالمي للفتوى تجيب (فيديو)    والد محمد الدرة: الاحتلال عاجز عن مواجهة المقاومة.. ويرتكب محرقة هولوكوست بحق الفلسطينيين    خُط المنطقة المزيف    الزمالك 2007 يكتسح غزل المحلة بخماسية نظيفة في بطولة الجمهورية للشباب    المتحف المصرى الكبير أيقونة السياحة المصرية للعالم    20 مليار جنيه دعمًا لمصانع البناء.. وتوفير المازوت الإثنين.. الوزير: لجنة لدراسة توطين صناعة خلايا الطاقة الشمسية    «حماة الوطن»: إعادة الإقرارات الضريبية تعزز الثقة بين الضرائب والممولين    النيابة تواجه مؤمن زكريا وزوجته ب التربي في واقعة السحر    اللجنة الدولية للصليب الأحمر بلبنان: نعيش أوضاعا صعبة.. والعائلات النازحة تعاني    طرح 1760 وحدة سكنية للمصريين العاملين بالخارج في 7 مدن    نائب محافظ الدقهلية يبحث إنشاء قاعدة بيانات موحدة للجمعيات الأهلية    يختصر الاشتراطات.. مساعد "التنمية المحلية" يكشف مميزات قانون بناء 2008    تواصل فعاليات «بداية جديدة» بقصور ثقافة العريش في شمال سيناء    محافظ القاهرة يشهد احتفالية مرور 10 أعوام على إنشاء أندية السكان    ناصر منسي: إمام عاشور صديقي.. وأتمنى اللعب مع أفشة    جامعة بنها: منح دراسية لخريجي مدارس المتفوقين بالبرامج الجديدة لكلية الهندسة بشبرا    هيئة الاستشعار من البُعد تبحث سُبل التعاون المُشترك مع هيئة فولبرايت    مصرع شخص دهسته سيارة أثناء عبوره الطريق بمدينة نصر    برغم القانون 12.. ياسر يوافق على بيع ليلى لصالح أكرم مقابل المال    أفلام السينما تحقق 833 ألف جنيه أخر ليلة عرض فى السينمات    مدير متحف كهف روميل: المتحف يضم مقتنيات تعود للحرب العالمية الثانية    «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف إعانة شهر أكتوبر للمستحقين غدًا    إنفوجراف.. آراء أئمة المذاهب فى جزاء الساحر ما بين الكفر والقتل    ضبط 1100 كرتونة تمور منتهية الصلاحية بأسواق البحيرة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 30-9-2024 في محافظة قنا    التحقيق مع المتهمين باختلاق واقعة العثور على أعمال سحر خاصة ب"مؤمن زكريا"    الأهلي يُعلن إصابة محمد هاني بجزع في الرباط الصليبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليلي
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 03 - 2010

في اللحظة التي ابتعد فيها سعيد عن نافذته، وبدأ بارتشاف كأس الزوفا، كانت سيارة أجرة صفراء تقف بانتظار فتح طرقات المدينة، بعد أن سدت الجنازة كافة المنافذ المؤدية إليها. داخل السيارة جلست الممثلة ليلي الصاوي ذات الثلاثين عاماً. تلف حول رأسها وشاحاً فضياً، تخفي به شعرها المنكوش، وتضع نظارات سوداء بإطار أحمر عريض، احتفظت بها من أيام نعيمها البائد. تقضم أظافرها بشراهة، وتنفث دخان سيجارتها، بعد أن اهترأ عقبها بين أسنانها.
كانت متخفية، تتنهد وتزفر بشدة، مما جعل السائق العجوز يطلب منها الترجل من سيارته، لأنه لم يعد يحتمل نقَّها كما قال لها وهو يفتح الباب ويصرخ: هيا انزلي يا عمي، لم أعد أريد منك شيئاً!
تنفست الصعداء ونزلت تجر حقيبتها الصغيرة؛ فقد كانت تستعد لجدال معه، حول قيمة الأجرة التي لم تكن تملكها، وكانت بانتظار الوصول إلي ماري لتقترض منها. لم تصدق ما سمعت. لقد أعفاها من الأجرة! قفزت من الفرح. أبسط التفاصيل كفيلة بإسعادها الآن. نسيت نفسها حين أطلقت ضحكة خافتة، فبانت أسنانها الصفراء، ولمعت تجاعيد ناعمة حول شفتيها مع حركة الزغب الأشقر. لوهلة شعرت بانتعاش، وهي تتخلص من مشكلتها الأولي. نزلت إلي الشارع. صفقت الباب وابتعدت عن السيارة، وراقبتها وهي تغادر مسرعة باتجاه شارع آخر، دون أن تكف عيناها عن مراقبة رأس السائق الذي كانت تخاف للحظة الأخيرة، أن يغير رأيه ويعود مطالباً بنقوده. لكن الرجل لم ينظر إلي الخلف، ومضي بعيداً عن التجمع البشري الذي يمتد بالجنازة من الساحة إلي منافذ المدينة وهو يشتم المرأة المخمورة التي جلست في المقعد الخلفي.
حملت ليلي الصاوي حقيبتها الصغيرة، ومضت تنظر في وجوه المارة، تحاول تخمين ما يمكن أن يوحي به منظرها. وبين لحظة وأخري تتوقف لترفع جوربها المثقوب، وترخي تنورتها المتشابكة بين ركبتيها، فتعيقها عن الحركة. الأهم من كل هذا ألاّ يتعرف عليها أحد معجبيها. ستكون تلك مصيبة. النظارات تخفي هويتها، وتريحها من أعين الفضوليين. لن يصدق أحد أن ليلي الصاوي هي نفسها المرأة المترنحة بحذاء ذي كعب عال عريض مخلخل، وتمشي نصف عرجاء، خائفة أن تسقط من تخلخله، وتلم تنورتها بين فخذيها، وتراقب الخط الذي بدأ ينسل من جوربها ويتحول إلي ثقب وهو ما حدث خلال ثوان، حين مست بأصابعها حركة انسلال الجورب فلامست لحمها، وأدركت أنها صارت فرجة للناس الذين لم يكونوا ليعيروا أهمية لجورب مثقوب، ترتديه امرأة تبدو مثل شخصية في فيلم كرتوني، فشل الرسام بضبط حركتها. كل أعضائها تتحرك منفردة، وعكس اتجاه الأعضاء المقابلة، وهي تسرع الخطي غير مبالية. رأسها مرفوعة نحو السماء، وتهتز باضطراب، وتمشي بسرعة أقرب للركض.
بعد دقيقتين ركضت، وانفلت الوشاح عن شعرها الذي انتشر في الفضاء. والثقب الذي بدأ صغيراً كبر وصار فتحة كبيرة، لكنها لم تتوقف. ركضت بسرعة، والناس الذين اعتقدوا أنها جزء من المشهد الذي لف المدينة كانوا يتحسرون علي عقلها. رؤيتها تثير انطباعاً بأنّها هربت من مصحة عقلية. وعلي الرغم من ركضهم السريع إلي الجنازة أو إلي بيوتهم، كانوا يتابعونها بعيونهم حتي تختفي، ويتحسرون علي شبابها وجمالها. فقد كانت ما تزال قادرة علي إبهار مَنْ حولها.
وصلتْ أخيراً. تتنفس بصعوبة، وبالكاد تستطيع الوقوف علي قدميها. والصمت الذي خيم علي الشارع أخافها. اختفي الناس فجأة. نظرت إلي ساعتها، فاكتشفت أنها ركضت نصف ساعة. تابعت التنفس بانتظام، ودخلت بناء أبيض من أربع طوابق، شُيد علي الطراز الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي.. قرعت الجرس، ولامست بأصابعها اللافتة التي تعرفها جيداً والتي ما تزال علي حالها لامعةً ونظيفة: House of Beauty قرعت ثانية، وثالثة. شعرت أنها ستتهاوي علي الأرض، فكيف ستعود؟ وإلي أين ستذهب الآن؟
فُتح الباب، وظهرت ماري، نظرت إليها بازدراء، وأغلقت الباب نصف إغلاقة:
ماذا تريدين؟ قالت باقتضاب. لم تجب ليلي. سمعتْ صوتاً من الداخل يسأل، فأجابت ماري: هذه شحاذة .. ست ميرنا.
توقفت ليلي عن التنفس لثوان، ونزعت نظارتها عن وجهها، تنظر بدهشة في عيني ماري وتفكر ما الذي دفعها للقدوم إليها؟ ومن بقي لها لتذهب إليه؟ ولِمَ تجاهلت ماري معرفتها؟ كان صدرها يعلو ويهبط، لا تعرف عند أي نقطة توقفت حكايتها. أمر غامض وسري جعلها تأتي إلي هذا المكان. أجل إنها هنا، تقف كما وقفت منذ زمن طويل. فارق بسيط يجعل كل شيء مختلفاً! الفارق بضع سنوات تمحوها الآن وتقلب صفحاتها، وتعود كما كانت. أما لماذا اندفعت إلي ماري دون كل الناس، فهذا سؤال غريب، لم ترتب ما الذي تنوي فعله بعد خروجها. كانت الأفكار تتدفق في أحشائها فتنفثها، وكأن كائناً خفياً يحركها من وراء ظهرها. فكرت وهي بالكاد تقف علي قدميها أنها ضائعة. عند تلك اللحظة، حيث اكتشفت الضياع، حدقت ماري في عينيها الجامدتين. شهقت وهي تهوي إلي حضنها وتهمس لنفسها: هذه عيناها.
لا يمكن أن تتغير عينا ليلي الصاوي. عينان لا تملكهما أي امرأة علي وجه الأرض. عينان مسحوبتان من طرفي الوجه، مشدودتان كوتر، خضراوان تميلان إلي الأزرق. يتحرك فيهما سائل عسلي باستمرار، ويستقر ثقل هذا السائل في طرفي العينين الوحشيتين. أما رموشها السوداء الطويلة، فلم تزل علي حالها. ليست كالسابق، لكنها طويلة حادة مثل نهايات شعرها الإبرية.
اعتصرتها ماري، وتشممت رائحتها. كانت رائحة صابون من النوع الرخيص، لكنها مع ذلك تخصها، وحدها ماري تعرف أسرار روائح ليلي، وهي وحدها تستطيع أن تخمن مزاجها من الرائحة التي تشمها.
جذبتها بقوة إلي داخل تزال تحضنها، واغرورقت عيناها بالدموع، صرخت:
ليلي.. مدام ميرنا.
خرجت الست ميرنا من الصالة، ونظرت باندهاش تحدق في المرأة الغريبة الشكل :
ماري من هذه؟
الست ليلي الصاوي، زبونتنا..
أية زبونة؟
الممثلة... مدام!
تهز الست ميرنا رأسها، وبالكاد تصدق عينيها وتبتعد، ثم تدخل ثانية إلي الغرفة المخصصة لنتف شعر العانة ومن هناك تصرخ بصوت حاد:
مارررري
تدخل ماري إلي غرفة جانبية، وتغيب بضع دقائق، ثم تخرج مكفهرة الوجه. تجلس قرب ليلي التي استلقت علي أريكتها المفضلة، وأغمضت عينيها. لا بد أنها تحلم، وكل ما حدث هو مجرد لعبة ذهنية تسافر فيها كما اعتادت أن تفعل، منذ أن كانت طفلة تمسح وجهها بالطين، وتصرخ: أنا كونتا كينتي!
هي لعبة أخري؟ ألم تبق لشهور تصرخ في القرية وتظلل وجهها بالطين، إنها ليست ليلي الصاوي، وهي كونتا كينتي، الآن تستطيع تذكر تلك اللحظات، عندما تداخلت روحها مع عيني المستعبد الأسود. إنها هي نفسها روح الزمن البعيد. الزمن الذي أفاقت منه، بعد ضرب مبرح علي قفاها تحت شجرة التوت، لتمتنع عن قول الجملة اللعينة: أنا كونتا كينتي...
حينها كانت عائلتها تجتمع لشرب الشاي، وأولاد الأعمام والأخوال يراقبونها. يتوزعون من حولها، ليحقق الواحد منهم لذته في الوشاية بها. فقد كانوا مستفزين من صمتها القاسي؛ لا تلعب معهم، ولا ترد علي بذاءتهم. تكتفي بنظرة واحدة، تسبل عينيها بعدها بحزن وكبرياء، ثم تتجاهلهم. فرصة الوشاية بها لن يفوتوها ببساطة، يريدون رؤيتها غاضبة. تابعوها طوال النهار، وما إن بدأت تلعب بالطين، وتمرغه علي خدها، حتي سارعوا بالصراخ من حولها، لكنها لم تكترث واكتفت بأن مشت يومها كمنومة مغناطيسياً وهي تقول: أنا كونتا كينتي..كونتا كينتي.
أفاقت علي لطمة قوية أوقعتها أرضاً، ففتحت عينيها. شعرت أنها تطير في الهواء. كان عمها يحملها علي ظهره، ويركض بها. علقها من يديها علي أحد فروع شجرة السنديان، بعد أن أحكم ربطهما بحبل قوي، وترك جسدها الصغير يتأرجح في الهواء، ونزع حذاءها، وضربها بجذع رمان رفيع ذي لون أحمر قاتم وصرخ بها ألاّ تعود لتلك الترهات. لم تعلن التوبة، ولكنها منذ اللحظة التي تركت فيها معلقة وجسمها يوجعها، تتأرجح تحت شجرة التوت، قررت الصمت نهائياً، كي تصبح ممثلة عندما تكبر. وكل ما فعلته عندما كبرت وصارت ممثلة، أنها عاشت بروح تلك اللحظة فقط. لم تبذل أي جهد إضافي. اللحظة التي دفعتها لطلاء وجهها بالطين والصراخ: أنا كونتا كينتي.
ربما هي لعبة من ألعاب عقلها الممتعة، وستفتح عينيها وتنظر في المرايا، وتكتشف أنها ما زالت كما هي، ليلي الصاوي الممثلة الأكثر جاذبية، وليست المرأة التي أدمنت الهيرويين والحشيش، وتركت الإبر التي تُغرس في جسدها، علامات زرقاء لن يمحوها الزمن، حتي لم تبق ذرةٌ من جلدها لم تثقبها إبرة ساحرة تحولها إلي أميرة، أو كائن غير مرئي، كائن شفاف، لا يُري، ولا يَري. مجرد شيء ما يشبه راحة نفس أبدية في عالم مجهول. يبدأ بخدر لذيذ، يتسلق المسام والأوردة، وينحل ببطء تحت الجلد، ويحوله إلي حبيبات تدغدغ العقل بكركرة تبدو ناعمة، لكنها سرعان ما تتحول إلي مسرح من العدم. ضحك... ضحك..ضحك، ثم بطن كبيرة خاوية لا تمتلئ أبداً من الضحك.
كانت تضحك بعد الشمِّ أيضاً، الشم اللذيذ المترع بسحب الكون دفعة واحدة إلي أعماق روحها التي لبست أجساداً كثيرة، وتعرف أن أول الدخول في عالم الهباء الجميل هو الضحك. تضحك بخفوت، وترخي رأسها علي مادة صلبة حتي لا تقع وتفقد لذة الاحساس بالاكسير السحري الذي يسري في عروقها، أو يدخل عبر حواس شمها بالنثرات البيضاء التي كانت تتشممها بهوس شرب فنجان قهوة يومي.
أجل. ستفيق الآن وتفتح عينيها وتكتشف أنها ما زالت تقف أمام مرآتها المفضلة، عند الست ميرنا. وماري ستكون برفقتها أيضاً.
تفتح عينيها بعد أن لسعها ألم في أصابع قدميها، فتتأكد أنها ليست في حلم، وهذا الألم يعود إلي حذاء الكعب العالي الذي منحتها إياه إحدي بنات الليل اللواتي رافقنها في مهجع السجينات. هي ليست واقفة أمام ضوء مسلط عليها وسط ظلام داكن، ولا ترتدي أحد الأقنعة تحت جلدها. جلدها يبقي علي حاله أمام الكاميرا، والقناع يدخل تحت الجلد. تنتهي الشخصية ويبقي القناع. ثم تعود وتشق جلدها من جديد وتضع القناع. تضيع أصابعها بين الجلد والقناع. يختفي حد فاصل هش بينهما. تفتح عينيها علي صوت ماري:
سأنظف المكان وانصرف. مع السلامة ست ميرنا.
خرجت الست ميرنا، بعد أن وضعت نظارتها السوداء، تجاهلت وجود ليلي، وصفقت الباب بقوة. قبل أن تسمع طقطقة حذائها تنحنحت ليلي، وجلست مستقيمة كأنها تعود من ألف سنة نوم. تأتأت ماري:
أنت تعرفين أننا لا نعمل اليوم، الدنيا مقلوبة في الخارج. الرئيس مات.
أعرف.
ترتخي ليلي علي الأريكة وتهمس:
أريد سيجارة.
تعطيها ماري علبة دخان كاملة، ترتجف وهي تشعل لها سيجارتها.
لن أطيل هنا، سأخرج بعد إنهاء السيجارة.
إلي أين؟ تسألها وتتحرك في أرجاء المكان، متحاشية النظر في عينيها. تمسك منشفة صغيرة، وترش المرايا ببخاخ أزرق، ثم تدعك سطحها المصقول، تعقم أدوات التجميل، وملاقط الشعر الناعمة والمقصات، وتطوي المناشف التي تصطف فوق رف خشبي من الزان اللامع. تشعل ليلي سيجارتها الثالثة، فتدخل ماري إلي المطبخ، وتعود بفنجان قهوة ساخن، تضعه أمامها، وتلقي بأعقاب السجائر، وتعود بمنفضة جديدة.
كانouse of Beauty أكثر صالونات حي الرمان شهرة وقدماً، ورثته الست ميرنا عن أمها. وارتادته معظم سيدات الطبقة الغنية، والقليل من سيدات الطبقة المتوسطة، قبل أن تبدأ تلك الطبقة بالاختفاء، وراء الفقر، أو تحت قشرة من الثراء عندما يستطيع بعض أفرادها تسلق سلم الأغنياء الجدد. كانت الست ميرنا حريصة علي نوعية النساء اللواتي يأتين إليها، وتعرف كيف تنتقيهن بعناية وتدللهن. ومن خلالهن ولسنوات طويلة، استطاعت أن تؤسس لنفسها مكانة خاصة من خلال نفوذ زوجات وعشيقات المسؤولين في الحكومة. وليلي نفسها قبل بضع سنوات كانت زبونتها المفضلة، تقوم علي خدمتها بنفسها، وهي حظوة لم تحظ بها سوي نساء قليلات، خاصة عندما كان يخطر علي بال ليلي أن تتمشي في صالونها شبه عارية، تدخن سيجارتها طالبة استراحة قليلة من وجع نتف الشعيرات. كانت الست ميرنا تلحق بها وتمسح عن جبينها بعض قطرات العرق، وتأمر مستخدماتها الاعتناء بها. وكانت ليلي تطلق ضحكاتها وغمزاتها، وتتغنج أمامها، ثم ترتخي بعد سيجارتها، وتفرد ساقيها أمام ماري التي تنتف شعر جسمها. وبعد ذلك، تقلّم البنات الآخريات أظافر قدميها وأصابعها، قبل أن تنتهي أمام إحدي المرايا لتصفف شعرها. وفي اليوم الذي كانت تقوم فيه ليلي بزيارة Hause of beauty تحجز أدوار خمس زبونات، حتي يتاح لها الحركة علي راحتها، وحتي لا تضطر لرؤية أجساد النساء المترهلات اللواتي ينتشرن في الصالة، و يتمددن مسترخيات.
كانت ماري هي البنت الوحيدة التي سمحت لها ليلي برؤيتها عارية، ونتفت لها عانتها. تعرف أدق تفاصيل ثنيات جلدها وتقوم بنتفها، وتلمعها بعد ذلك بالكريم الخاص الذي تأتي به ليلي، رافضة استخدام أي كريم آخر. وبعد أن تنتهي منها تحمم جسدها. وهو أمر لم تفعله مطلقاً لزبونة آخري، وكانت تخرج من بين يديها طرية بضة ملساء، لا أثر لزغب فوق جلدها الرطب. وعلي مرور سنوات صارت علاقة ماري بليلي الصاوي هوساً لا تحسد عليه ماري، لأن كل رفيقاتها كن يتغامزن عليها، خاصة عندما يمر بعض الوقت، وتغيب فيه ليلي، وتفقد ماري حظوتها عند الست ميرنا. فقد كانت مكروهة من قبل النساء الأخريات. ويجدنها دميمة، ويدها ثقيلة علي جلودهن، ويقرفن من الشعر الذي يغطي ذقنها ووجهها السمين.
توقفت ماري عن الحركة، وأشعلت ليلي سيجارة من جديد، فجلبت ماري ركوة القهوة ووضعتها أمامها. صبت لها فنجاناً آخر. جلست إلي جانبها صامتة، وأشعلت هي سيجارة. استغربت ليلي أن تدخن ماري. مالت عليها:
هل ما زلت تحتفظين بالصبار ؟
طبعا. ترد ماري باقتضاب.
تبتسم ليلي بخفوت، وتظهر أسنانها الصفراء، فتتحاشي ماري النظر إليها:
كنت أفكر أن تنتفي لي اليوم. أفكر بالذهاب إلي سعيد ناصر..
كيف خرجت هذه الكلمات من فمها؟ من قال إنها تريد الذهاب إليه؟ كيف تفكر فيه عبر لحظاتها الصعبة هذه؟ اخرسي أيتها المجنونة، تقول ليلي
بصوت مسموع، وهي تنهر نفسها وتحرك يدها حول رأسها وكأنها تهش ذبابة، ثم ترتجف. هل فعلاً تريد رؤيته؟ لماذا تركها في السجن؟ كم سألت نفسها هذا السؤال وهي تتكور بين السجينات في زاوية المهجع، تنظر في نافذة ضيقة عالية مغطاة بشبك معدني، كم بكت وهي تناجيه ألا يتركها تموت ببطء بين رطوبة الجدران. تحدق ماري في حركة رأسها مدهوشة، وتتحرك بسرعة أقرب إلي الغضب، تلم بعض الأشياء، وتتظاهر بالانشغال و تحبس دموعها. تحاول استراق النظر إلي ليلي، فقد خيل إليها لوهلة أن هذه المرأة مجنونة، وليست مدللتها التي زارتها منذ سنة في سجن دوما.
كانت الوحيدة التي فعلت ذلك، بعد مضي أكثر من سنتين علي وجودها في السجن. والسبب الوحيد الذي أوقفها أن مدير السجن منعها، وأخبرها فيما يشبه السر، أن هناك تعليمات لمنع الزيارة عن ليلي الصاوي، وأن عليها العودة إلي بيتها.
ذلك الصباح أعدت فطائر باللحم والسبانخ التي تفضلها ليلي، وجلبت معها أحمر شفاه وكريماً مرطباً، ليس من النوع الجيد جداً، لكنه يكفي لأصابع ليلي، وارتدت أجمل ما لديها: فستاناً أخضرَ وحذاء أبيض، علو كعبه خمسة سنتيمترات، وفردت شعرها علي غير العادة، لأن الزيارة الأولي أرهقت روحها عندما عاتبتها ليلي، وطلبت منها لأول مرة، أن تنتف شعر ذقنها وهي تضحك، وتهمس بصوتها المبحوح: الإسكافي حافي حبيبتي.
حتي إن شعرها المعقوص نحو الأعلي علي شكل كعكة عيد صغيرة، تحرر وتحول عند مزين الشعر إلي شعر ناعم طويل ولامع. لم تكد تتعرف علي نفسها، وهي تحدق في مرآة غرفتها التي تتخللها البقع السوداء، وتحاول جرّ أمها العجوز إلي إبداء ملاحظة أو رأي. وعلي الرغم من أن الأم قالت لها: ما أجملك! إلا أنها صفقت الباب وخرجت، حتي قبل أن تكمل الأم جملتها. وصارت تردد تلك الجملة، بعد أن استقلت التاكسي طوال الطريق إلي السجن. وتغمض عينيها لتري فتاة سمينة داخل إطار مرآة مضببة، تدور حول نفسها، فتضحك ويستغرب السائق. ثم تتخيل تلك البنت الجميلة ذات الفستان الأخضر، بشعر أسود مسترسل ووجه لامع، وساقين منتوفتين للمرة الأولي فتضحك أكثر. يلتفت السائق إليها ويسألها إن كانت تعاني من مشكلة، فتلم ضحكتها وتبتسم له في لطف وتقترب منه:
اليوم أنا سعيدة.
ينظر إليها بفضول وخوف، ويتمني لها السعادة طول العمر.
أمي قالت إنني جميلة!
فيضحك السائق ويهز برأسه:
كل الأمهات يقلن ذلك عن بناتهن.
إلا أمي.
لماذا؟
إنها عمياء.
يصمت السائق. يثبت نظرات عينيه ويقود بسرعة. تصمت ماري، ولا يسمع سوي صوت هدير الشاحنات علي الطريق الصحراوي العريض.
في السجن لم يُسمح لها بالدخول. الفطائر والعصائر وأدوات التجميل تركتها عند مدير السجن الذي وعد بإيصالها إلي ليلي، وطلب منها عدم الحضور ثانية. وكما اعتادت امتثلت لأوامره. وغادرت السجن دون أن تفكر ثانية بالرجوع.
الآن تجد ليلي الصاوي أمامها، أو امرأة تشبهها، ليست مدركة حقاً إن كانت هذه المرأة هي ليلي، أم امرأة أخري قادمة من عالم الأموات. تنظر في جواربها وتستغرب لماذا تلبس الجوارب في حزيران. جوارب غامقة وسوداء. تجلس إلي جانبها. تحدق في الثقب الكبير الذي يظهر ركبتها البيضاء، تكتشف أن شعيرات سوداء غزيرة تغطي ساقها، حتي حذاءها؛ كان مغبرَّاً ومهملاً. شفتاها مشققتان. أظافرها مدماة. بشرة وجهها تتموج بقشور تشبه الحراشف، وتغطيها طبقة من البثور السوداء، تمتد من أعلي خديها حتي أسفل ذقنها. اقتربت منها. أمسكت يدها، فشعرت ببرودة تسري في عظامها. نظرت في عينيها، وحدقت بدهشة فيهما، العينان فقط بقيتا علي حالهما، علي الرغم من أن السائل العسلي لم يعد رقراقاً فيهما، اقتربت أكثر، وضمت ليلي إلي صدرها، وتنهدت بعمق.
وقفت ليلي بثبات، وتابعت تدخينها، وكأن ما يحدث مع امرأة أخري تراقبها. صوت غريب خرج من حلقها. صوت بدأ بقوة وانتهي بنشيج. صوت يشبه رجع صدي عميق وخشن ومتوحش:
ركبوني يا ماري كل يوم حتي ملوني. مثل عنزة ركبوني. حلقوا شعر رأسي. رأسي مثل بطيخة. شلحوني ثيابي. جعلوني أجلس مثل عنزة. يتفرجون علي ويقولون: الممثلة..الممثلة هئ هئ هئ هئ هئ. لا أعرف وجوههم.. من هم؟ يثبتني اثنان منهم من كتفي. أشعر بأعضائهم تدخل مثل سكين حادة، ثم تخرج. اغمض عيني. لطمات أكفهم علي مؤخرتي. هياجهم. صياحهم. أشم روائحهم المقززة حتي أفقد وعيي. أفيق أتكتك من البرد عارية أمسح بقاياهم عني.
تتنهد وتشهق، تبدأ الأقنعة تخرج من تحت جلدها. عشرات الأقنعة تتطاير من حول وجهها، وتصرخ:
لم أحفظ حتي أصواتهم. يدخلون مع بعضهم. ثلاثة، أربعة.. لا..لا أعرف.
كانت ليلي ترتجف، وماري تمسكها من كتفيها، وتحاول تهدئتها بعد أن بدأت الكلمات تتدفق من فمها.
ركبوني مثل كلبة. يعطونني شمة صغيرة بعد كل مرة، ويقرصون نهدي، ويقولون: انبسطتِ؟
تتوقف عن الكلام، تنظر في عيني ماري المرعوبتين:
اهدئي الآن.. ستخبرينني كل شيء في البيت.
لكن ليلي تتابع، تهذر بكلام غير مفهوم. وكانت ماري أثناء ذلك تقوم بجمع أشيائها، وتستعد لمغادرة المكان، وتنظر من النافذة خائفة، وتمرر يدها بحنو بين لحظة وأخري علي شعر ليلي التي بدأت تتحرك بعصبية، وتتنقل بين المرايا، وتلم شعرها، وتحدق في عينيها، وتدور حول نفسها، وتكتشف أنها ليست هي، ثم تمسح علي بطنها الذي تكور بطريقة غريبة، وتدقق في ردفيها الكبيرين، وعينيها المحمرتين، وشفتيها الزرقاوين. لم تكن هي! أبداً ليست هي؟ عيناها فقط هما نفساهما، تتمتم بصوت مسموع:
ربما استبدلوني هناك؟
تضحك ماري، وتضحك ليلي، تضحكان بصوت عال، تقفان متجاورتين، وتنظران بدهشة في المرآة:
تعتقدين أني مجنونة؟
تهمس ليلي. تتوقف ماري عن الضحك، يشحب وجهها:
أبداً، فلنذهب إلي البيت.
تطفئ ماري الأنوار، تخرجان إلي صمت الشارع وحر حزيران. الشارع ما يزال خالياً، والجنازة لم تنته بعد، والطرق ما تزال مسدودة، لكنهما تستطيعان المشي حتي تصلا إلي حارات باب توما، حيث تسكن ماري مع أمها في غرفة وحيدة، ضمن بيت كبير يعج بالمستأجرين الذين لا يلتقون إلا في أرض الفناء صباحاً، وهم يتأهبون للانتشار في المدينة. فكرت ماري أنها ربما تجد سيارة تقلهما إلي مكان قريب من ساحة باب توما. كانت ليلي في حالة يرثي لها، وربما تقع في أي لحظة، وعندها سيكون من الصعب عليها حملها. أمسكت بيدها ومشتا ببطء. تسيران بعرج واضح. الاثنتان معاً، ليلي تعرج، وماري تمسك بها فتعرج مثلها، وتنحني كما تفعل حتي لا تسبب لها الإرباك، فتشم رائحة منفرة. لأول مرة تشعر أنها بحاجة للبكاء بصوت مسموع وعال، لكنها تحجم، وتشد علي يد ليلي المسترخية في كفها بسلام وتدفعها نحو الأمام، وهي متيقنة أنها لن تجد سيارة أجرة قريبة، ليس بسبب الجنازة فقط، بل لأنها تحفظ هذا الشارع الأنيق الذي تتخلل رصيفه أشجار حور عالية، وتتدلي من أصص شرفاته الورودُ والعرائش.
House of Beauty وهي لا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.