وزير المالية وضريبته العقارية الجديدة! مكرم محمد أحمد مع كل الاحترام للدوافع العديدة التي ضمنها وزير المالية الدكتور يوسف بطرس غالي الحيثيات التي ساقها لتبرير إصدار قانون الضريبة علي العقارات ابتداء من دعاوي الدفاع عن العدالة الاجتماعية وإنهاء التشرذم التشريعي بسبب خضوع الضريبة في صورتها الحالية لقانون الإدارة المحلية, وإزالة التشوهات الاقتصادية في السوق العقارية, بسبب فرض الضريبة علي عقارات كائنة في مناطق محددة دون أخري, فإن الدوافع الحقيقية لإصدار القانون في هذا التوقيت غير الملائم تخلص في أمرين أساسيين: أولهما زيادة موارد الخزانة العامة من ضريبة يمول غالبيتها مواطنون من الطبقة الوسطي, يرتفع سعرها في مشروع القانون الذي قدمه الوزير لمجلس الشوري إلي حدود بالغة القسوة والارتفاع. وثانيهما تحويلها من ضريبة محلية تسهم في تمويل المحليات ربطا وتحصيلا إلي ضريبة عامة بدعوي وحدة الميزانية وسيطرة المالية علي كل الموارد, الأمر الذي سوف يؤدي إلي المزيد من خضوع المحليات لسلطة الإدارة المركزية برغم كثرة الحديث المتكرر في مصر عن ضرورة تحقيق اللامركزية وتعزيز تمويل الوحدات المحلية. وأكاد أجزم بأنه لولا المعركة الضارية داخل لجان مجلس الشوري علي امتداد خمسة أشهر أو أكثر لما خرج مشروع القانون بصورة أكثر رشدا في ظل الأعباء المتزايدة علي كاهل الطبقة الوسطي نتيجة زيادة الإنفاق علي الدروس الخصوصية, لأن المدرسة لا تعلم التلاميذ الكثير, وارتفاع نفقات المرضي والعلاج لسوء الخدمة في المستشفيات العامة وزيادة أسعار الدواء, بالإضافة إلي فواتير الكهرباء المتصاعدة القيمة, وضغوط اجتماعية جديدة ترهق دخول هذه الطبقة بسبب عدوي المحاكاة, التي جعلت من التليفون المحمول والوجبات السريعة تحت ضغوط الأبناء أبواب إنفاق جديدة تأكل جزءا لا بأس به من دخول هذه الأسر بالإضافة إلي السيارة التي لم يعد استخدامها يدخل في نطاق الكماليات نتيجة الحالة السيئة والمزرية للمواصلات العامة. ولو أن شرائح الطبقة الوسطي في مصر تحصل علي خدمات لائقة تعوض ما تدفع من رسوم وضرائب لهان الأمر, وصفق الجميع لمشروع القانون الجديد, برغم أنه يأتي في توقيت غير صحيح نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة التي رفعت أسعار السلع والدواء والخدمات, وزادت من أزمة كل فئات الطبقة الوسطي التي تتضاءل معدلات ادخارها في مصر بدرجة عالية بسبب التوازن المفقود بين الدخول والنفقات... ولو أن الضريبة العقارية سوف تطول المنتجعات السياحية علي امتداد سواحل مصر وخارج كردونات القاهرة والمدن الكبري, كما تطول شركات المقاولات التي حققت ارباحا ضخمة ومهولة من المضاربة علي اسعار الأراضي ومن فروق الاسعار التي اشترت بها هذه الشركات أرض الدولة وأثمان الوحدات السكنية المعروضة للبيع, لكان لزاما علي الجميع ان يلتزم الصمت, لأنه مهما تكن الضريبة غير محببة بالنسبة لجميع الناس, فإن قبولها, علي حد تعبير رئيس مجلس الشوري صفوت الشريف في احدي جلسات مناقشة مشروع القانون, رهن بأن تكون عادلة ومتوازنة تتوزع أعباؤها علي الجميع وفقا لمستويات دخولهم, تحكمها معايير واحدة, وتنظمها آليات شفافة تضمن سلامة التقدير. ولست أعرف لماذا يسعي وزير المالية إلي إغضاب فئات عديدة من الطبقة الوسطي تمثل رمانة الميزان في حساب استقرار مصر, في هذا التوقيت الحرج والصعب بعد أن أهدر قيمة علاوة ال30% بإصراره علي رفع أسعار المازوت بعد أيام محدودة من قرار العلاوة, الذي أشعل أسعار نقل الأفراد والبضائع وضيع الأثر الفوري الذي أحدثته العلاوة, وتسبب في موجة جديدة من ارتفاع أسعار العديد من السلع التي يعاني منها معظم فئات المجتمع.. وبصراحة شديدة فإنني لا أعرف ما الذي يمكن ان يحصده الحكم من وراء سلسلة من القرارات المتتابعة اظهرت الحكومة وكأنها مجرد سلطة جباية في ظروف صعبة تتطلب تحصين روابط الوحدة بين فئات المجتمع, وتعطيل الآليات الفاسدة التي ادت الي حالة من الاستقطاب الشديد داخل المجتمع المصري زادت من الفوارق بين قمة الهرم الاقتصادي في مصر وباقي فئات المجتمع وبينها كل شرائح الطبقة الوسطي في مصر. وإذا أردنا أن نحاكم نصوص مشروع القانون في صيغته الأولي التي قدمها الوزير قبل تعديلها في معركة ضارية داخل لجان مجلس الشوري الذي رفض القانون في صيغته الأولي بصورة مطلقة, فإن مشروع القانون, كما قدمه الوزير, كان كفيلا بإثارة غضب واسع في نطاق كل فئات الطبقة الوسطي, ليس فقط لأنه غالي في سعر الضريبة وجعلها في نطاق14% من القيمة الإيجارية للعقار, وهو سعر جد مرتفع يندر أن تجد له مثيلا في أي من صور قوانين الضريبة علي العقارات في أي بلد في العالم, ولكن لأنه جعل الضريبة علي الممول وليس علي العقار برغم أن القانون القديم كان يربط الضريبة علي العقار وليس علي الممول, وكان يعتبر كل عقار وحدة مستقلة يسري عليها حجم الإعفاء الذي ينص عليه القانون, والأغرب من ذلك ان يضع الوزير في مشروعه سقفا لحدود الإعفاء لا يتجاوز600 جنيه للممول وليس للعقار, في الوقت الذي يحتسب فيه الضريبة علي أساس14% من القيمة السوقية للعقار, برغم ان الوزير يعرف جيدا ان معظم الوحدات السكنية خصوصا في بعض الأحياء والمناطق الجديدة ارتفع سعرها السوقي كثيرا وبصورة تكاد تكون جزافية رغما عن مصالح ملاكها نتيجة المضاربات علي اسعار الاراضي, علي حين تعجز دخولهم عن الوفاء بقيمة هذه الضريبة لأنهم يقيمون في هذه الوحدات ولا يملكون بديلا غيرها. وقد يكون صحيحا ما قاله الوزير خلال مناقشات المجلس من أن الضريبة العقارية هي أول ضريبة فكرت حكومات العالم في فرضها منذ الثورة الفرنسية, عندما كان يتم حساب الضريبة وفق تقدير يراعي عدد الشبابيك في كل عقار كمعيار لحجمه ومساحته, كما أن التهرب من الوفاء بها يكاد يكون أمرا مستحيلا, لأن المكلف بالضريبة لن يستطيع أن يخفي عقارا قد يكون عمارة أو منزلا, ولعلها أسهل وأبسط أنواع الضرائب المحببة إلي الحكومة لسهولة حصرها وتحصيلها, لكن مشروعية أي ضريبة تنبع أولا من عدالتها... وبرغم أن مجلس الشوري استطاع خلال مناقشاته خفض سعر الضريبة من14% إلي12% مع خصم25% من قيمتها لصالح أغراض صيانة العقار, إلا أن سعر الضريبة كان لايزال عاليا قياسا علي سقف الإعفاء الذي حدده الوزير ب600 جنيه للممول وليس العقار, بل لعلي أتجرأ علي القول بأنه سعر ظالم يحاسب المالك علي قيمة صورة لعقار يقيم فيه لا يحقق له دخلا, ولأن الظلم بين وفادح تراجع الوزير تحت وطأة نقاش عقلاني جاد عن حدود الإعفاء المتواضع الذي جاء في مشروع القانون ليصل حجم الإعفاء إلي2800 جنيه للعقار الواحد وليس للممول, أي ما يعادل خمسة أضعاف حجم الإعفاء الذي رسمه مشروع القانون, مع اعتبار كل عقار وحدة بذاتها تتمتع بحق الإعفاء وحق الصيانة, والأمر المؤكد أن هذا التعديل الجذري علي مشروع القانون هو الذي خفف من وطأة مشروع معيب يفتقد الحس السياسي لسوء توقيته ويفتقد الإدراك الصحيح للواقع الاجتماعي في مصر, ولعله كان كفيلا بإثارة مشاكل كثيرة, الجميع في غني عنها! وبحسبة بسيطة فإن الضريبة العقارية المستحقة علي عقار بلغت قيمته السوقية300 ألف جنيه سوف تكون في حدود70 جنيها بقسط شهري ربما يصل إلي ستة جنيهات, فإذا كانت القيمة السوقية للعقار في حدود نصف مليون جنيه, فإن الضريبة المستحقة سوف تصل إلي حدود1128 جنيها بقسط شهري يصل إلي40 جنيها, أما القيمة السوقية لعقار يمكن أن يصل ثمنه إلي مليون جنيه فإن الضريبة المستحقة في العام تصل إلي7176 جنيها بقسط شهري يصل إلي598 جنيها, ومع الاعتراف بالجهد الضخم الذي بذله مجلس الشوري لترشيد نصوص مشروع القانون, فإن قيمة الضريبة لا تزال عالية قياسا علي من يقيمون في هذه العقارات, لأن الثمن السوقي لا ينبغي أن يكون معيار الحساب لضريبة مضافة أول شروط استحقاقها أن تكون عن زيادة فعلية في الدخل الناتج من هذا العقار؟! وإذا كان مشروع القانون الجديد ينص علي إعادة حصر العقارات مرة كل خمسة أعوام بهدف إعادة تقييم القيمة الإيجارية وفق المتغيرات التي تطرأ علي سوق العقارات, وتغيير قيمة الضريبة علي العقار وفقا لذلك, يصبح من الضروري أن نسأل, لماذا يزداد العبء الضريبي علي المالك المقيم مرة كل خمسة أعوام, إن كان مالك العقار مقيما فيه لا يتحصل له أي دخل مضاف من هذا العقار؟ ولماذا لا تكون إعادة التقييم مرة كل عشرة أعوام كما ينص القانون القديم بدلا من هذه المطاردة المتلاحقة دون أي مسوغ حقيقي مرة كل خمسة أعوام! ويدخل ضمن الانتقادات المبررة لمشروع القانون الذي قدمه الوزير أن المشروع لا يتضمن في بنوده ما ينص صراحة علي إعفاء المساكن الشعبية ومساكن الشباب والأماكن الخاصة ذات النفع العام مثل مقار الأحزاب ومراكز الشباب والجمعيات الخيرية ومقار الجمعيات العلمية والأنشطة التي لا تستهدف الربح, اكتفاء بأن هناك قوانين أخري تحدد هذه الإعفاءات, برغم أن قانونا يتعلق بالضريبة علي العقارات ينبغي أن يكون شاملا مكتفيا بنصوصه دون الإحالة إلي قوانين أخري تحقيقا للوضوح وتيسيرا علي الناس. لكن أخطر ما في مشروع القانون, أنه يستلب المحليات, تحت دعاوي وحدة الموازنة, حقها في مصادر تمويل خاصة ناتجة عن أنشطة محلية, تمكنها من زيادة قدرتها علي تحسين جودة الحياة والارتقاء بمستوي الخدمات, خصوصا مع الاتجاه المتزايد نحو اللامركزية, التي يكاد يكون أول متطلبات وشروط تحقيقها, تهيئة مصادر تمويل خاصة تساعد المحليات علي تغطية أوجه النقص التي لا تستطيع الموازنة العامة سدها. وإذا ما كان صحيحا ما يقوله الوزير من أن حصيلة الضرائب العقارية في ظل تبعيتها للإدارة المحلية تشكل مبلغا متواضعا لا يتجاوز قيمته175 مليون جنيه يذهب أغلبه للإدارة المحلية, وأنه علي استعداد لأن يعطي للمحليات المبالغ ذاتها التي كانت تتحصل عليها... يصبح من الضروري أن نسأل, ما هي الحكمة من السعي إلي إنشاء القانون الجديد؟! الوزير يقول, إن في مصر الآن ما يقرب من30 مليون عقار, المسجل منها لا يزيد علي مليونين, وتلك في حد ذاتها مشكلة ضخمة, لأن إعادة حصر هذه العقارات وتسجيلها يتطلب فترة زمنية يقدرها الخبراء بثلاثة أعوام أو أربعة, ومن ثم فإن المتوقع أن ترتفع حصيلة ضريبة العقارات خلال فترة زمنية محدودة علي نحو كبير, يبرر أن تستحوذ المالية العامة علي عائدها لتعيد توزيع الموازنة وفقا لأوجه الإنفاق المخططة وبينها المحليات... علي حين تقول تجارب المحليات الناجحة إن نجاح المحليات في تحسين جودة الحياة في الأقاليم يرتبط بحقها في أن تتقاسم مع الحكومة المركزية نسبة واضحة من عائد إيراداتها المحلية كي لا تستحوذ الحكومة المركزية علي حق المحليات في استخدام بعض مواردها الخاصة لتحسين جودة الحياة في مناطقها, لأن بنود الموازنة العامة في مصر لاتزال في جانب كبير منها تتوزع طبقا للمكانة الشخصية للوزير في سلم الوزارة ومدي قدرته علي ممارسة الضغوط علي الحكومة, وإلا ما هبطت موازنة الصحة إلي هذه الحدود الشائنة مع كل احترامي وتقديري لوزير الصحة حاتم الجبلي الذي لا يكل ولا يمل من متابعة مشاكل وزارته علي أرض الواقع. ويبقي في النهاية هذا السؤال الملح, لماذا الآن؟! وما هي الحكمة من الهرولة في هذا التوقيت؟ إن كانت عملية حصر العقارات وتسجيلها سوف تتطلب علي الأقل4 سنوات أخري؟! أم أن الوزير يريد تنفيذ قانونه بالقطاعي شارعا شارعا, بحيث يتم إلزام ممولي كل شارع بدفع ضرائبهم العقارية متي انتهت لجان الحصر والتسجيل من مهمتها في هذا الشارع؟... وأخيرا ليت الوزير يترك للناس بعض فرصة وقت يلتقطون فيها أنفاسهم بدلا من هذا العناء المتصل. عن صحيفة الاهرام المصرية 24/5/2008