عبدالعظيم حماد إذا لم نكن نريد التعلم من تجارب غيرنا, فلماذا لا نتعلم من تجاربنا الخاصة؟.. إننا لم ننجح في القضاء علي مشكلة تعدد سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية, وبالتالي القضاء علي السوق السوداء للعملة بكل مظاهرها وآثارها المدمرة علي الاقتصاد القومي, إلا بقرار حاسم بتوحيد سعر الصرف, وهكذا فإن مبدأ السعر الموحد هو الحل السحري لأغلب مشكلات السوق, ويسري ذلك علي رغيف الخبز مثلما يسري علي الجنيه والدولار, ويمكن إيجاد آليات أخري للإبقاء علي الدعم, سواء للرغيف أو غيره من السلع والخدمات المطلوب تمكين الطبقات الأقل دخلا من الوصول إليها بسهولة وكرامة. بالقطع سوف تتعدد الاجتهادات للبحث عن أفضل الآليات الممكنة لحماية محدودي الدخل من مبدأ السعر الموحد, ومنها ما اقترحه الدكتور حازم الببلاوي علي صفحات الأهرام يوم الثلاثاء الماضي اعتمادا علي نظام الكوبونات ونضيف اليوم لاقتراح الدكتور الببلاوي اقتراحين قابلين للتطبيق الفوري, أولهما قد لا يتطلب سوي قرار من رئيس الوزراء أو من مجلس الوزراء, وبعث به المهندس سيف عنان, رئيس إحدي شركات الصناعات الهندسية, والثاني من الخبير الاقتصادي والتمويني سامي جاد الله. يقول المهندس عنان في رسالته إن80% من استهلاكنا من الدقيق يخصص لإنتاج الرغيف البلدي, وهو المدعوم بمبلغ16 مليار جنيه سنويا, أما مصانع الحلوي ومخابز الرغيف الأبيض, فلا تستهلك بالتالي سوي20% من الكمية.. فكم سيكلف الخزانة العامة للدولة إذا باعت هذه الكمية التي تشكل خمس الاستهلاك القومي من الدقيق بسعر الدقيق المخصص لإنتاج الرغيف البلدي؟.. ويجيب أن المبلغ لن يزيد علي3 مليارات إضافية من الجنيهات, وهو فضلا عن أنه مبلغ زهيد بالقياس إلي آثاره الإيجابية الضخمة علي السوق والمجتمع, يمكن للحكومة استرداده في شكل رسوم تفرض سنويا علي مخابز الرغيف الأبيض, ومصانع ومعارض الحلوي, التي لن يتضرر أصحابها وعمالها بما أنهم يدفعون حاليا سعرا أعلي في جوال الدقيق حتي لو اشترته مهربا من أصحاب مخابز الرغيف البلدي!وبالطبع يجب فرض عقوبات صارمة علي استخدام هذا الدقيق علفا للماشية والدواجن. كما يمكن دراسة تحريك سعر جوال الدقيق من نحو16 جنيها حاليا إلي نحو30 جنيها, مقابل رفع سعر الرغيف إلي10 قروش, وبالطبع سيكون الرغيف في هذه الحالة أكثر صلاحية, وأكثر وفرا حتي للمستهلك في نهاية المطاف. أما الخبير الاقتصادي والتمويني سامي جاد الله فيشرح بشيء من التفصيل, الجوانب الخفية في دورة اقتصاديات الخبز والسوق المصرية, ومن ثم يقترح الحلول للمشكلة الحالية, فالمشكلة في تحليله ثلاثية الأبعاد هي إنتاج القمح أو استيراده, وثانيا: عملية الطحن, ثم ثالثا عملية الخبز.. وفي إيجاز شديد, فقد تراجعت نسبة اكتفائنا الذاتي من القمح, بل والأدهي من ذلك تصريح البعض بأن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح ليس هدفا في حد ذاته, لنشتري من السوق العالمية ولا ندعم مزارعينا, وفي هذه الحالة, فإن فتح باب الاستيراد دون احتكار حكومي أو مؤسسي, بالإضافة إلي شراء القمح المحلي بالسعر العالمي, يوفر كثيرا من المليارات التي يتم تسربها إلي جيوب المستغلين. ونأتي للمرحلة الثانية, ألا وهي عملية الطحن, وهذه تشوبها مسالب أكثر من السابقة, سواء في مطاحن قطاع الأعمال العام أو مطاحن القطاع الخاص, فهذا المطحن أو ذاك يضمن مقدما أن الحكومة سوف تقدم له المادة الخام( القمح) ويضمن كذلك بيع المنتج( الدقيق) طبقا للحصص المقررة للمخابز, فبالله عليكم.. هل يوجد مجال إنتاجي الربحية فيه مضمونة وآمنة ومستديمة أكثر من هذا, وذلك بالطبع بالنسبة إلي الربح الجانبي من بيع النخالة وغيرها, والربح غير المشروع من التلاعب في المواصفات. وأسئلتي غير البريئة في هذا الشأن يقول سامي جاد الله تتمثل في: كيف يتم اختيار المطحن وتقرير حصته من القمح التمويني؟.. ولماذا ترتفع قيمة المطحن السوقية بعشرات الملايين طبقا لحصته التموينية من القمح؟..وكم مطحنا عوقب لإنتاجه دقيقا غير مطابق للمواصفات رغم معاناتنا من الخبز الرديء بسبب سوء الصنعة, الراجع جزئيا إلي عدم مطابقة الدقيق للمواصفات ؟ ما المرحلة الأخيرة, فهي مرحلة الخبز, وهذه معلومة للجميع بما فيها من مسالب بدءا من الترخيص للمخبز وتخصيص حصته من الدقيق التمويني, مرورا بعملية الإنتاج حتي التوزيع.. وما أود الإشارة إليه فقط هو هذا السؤال: لماذا يتكالب الناس علي إقامة أفران تنتج الخبز التمويني؟.. رغم أن الحصة اليومية من الدقيق عند الإنشاء الجديد لا تزيد علي أربعة أو خمسة أجولة فقط زنة الجوال100 كجم, وهذه لا تكفي للتشغيل الاقتصادي من عمالة ووقود وخلافه؟.. مما دفع بوزيرنا إلي تخفيض سعر الدقيق المسلم للمخابز, وهو ما أدي بدوره إلي زيادة الفرق بين سعر الدقيق التمويني والسعر الحر للدقيق. وهكذا يا سادة يتضح لنا بجلاء أن العمليات الثلاث يسودها الاحتكار والتخصيص الحكومي والفساد الإداري والأخلاقي, وهذا كله راجع إلي تضارب القرارات مع الأهداف المعلنة للسياسة الاقتصادية, ويحقق عدم الانسجام هذا مصلحة فئات معينة عن طريق نهب الدولة الفقيرة أصلا لعدم قدرتها علي تعبئة الموارد, ثالثا: والآن ما هو الحل؟.. في رأيي أن عملية الإصلاح الاقتصادي التي ننتهجها تحتم علينا أن نترك سوق القمح والدقيق والخبز حرة دون تدخل حكومي أو إداري, وفي هذه الحالة سيتوافر لنا رغيف خبز صالح للاستهلاك الآدمي لجميع المواطنين بسعره الحقيقي, علي أن تقوم الدولة بشرائه وتوزيعه بسعر في متناول الجميع, أو توزعه عن طريق الكوبونات, أو الطوابع علي البطاقة التموينية بعد تعديل نظام البطاقات. هذا الحل يقضي نهائيا علي كل أشكال الفاقد والسوق السوداء والسمسرة والتهليب والفساد الإداري والأخلاقي, كما أنه حل أطول أجلا يضمن وصول الدعم لمستحقيه بالمقارنة بالحل الأمني, أو فصل الإنتاج عن التوزيع. بصراحة نحن لا تنقصنا الدراسات والأبحاث في جميع النقاط التي أثيرت هنا, إنما ما نحتاجه هو القرار بتحرير أسواق القمح, والطحن والخبز من كل قيود الحصص والأسعار وتوجيه الدعم للمواطن المحتاج وليس للسلعة. عن صحيفة الاهرام المصرية 7/4/2008