الاتحاد من أجل المتوسط .. أعراض أزمة معلنة د. محمد مخلوف «الاتحاد من أجل المتوسط»، هذا هو التعبير الجديد الذي عمّدوا به المشروع الذي كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد أطلقه في أول خطاب له بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في شهر مايو الماضي.
لقد أطلق في ذلك الخطاب مشروع «الاتحاد المتوسطي» ثم حمله و«دار» به في جولة، بل جولات، إلى البلدان المعنية بجنوب البحر شارحاً في كل مرة فوائده ومناقبه والآفاق التي يفتحها «دون أية آثار جانبية سلبية»، لكن رغم كل ما قاله عنه وفيه من مديح فإن أعراضاً عديدة في أرض الواقع تسمح بالقول إنه يعاني من أزمة حقيقية.. هذا إذا لم يكن أكثر من ذلك..
قد تختلف التسميات من «اتحاد متوسطي» إلى «اتحاد من أجل المتوسط» ولكن تبقى أعراض الحالة واحدة.. وقد تمكن صياغتها في بعض المعطيات.
لقد قام المشروع أولاً بمبادرة من الرئيس الفرنسي دون أي تنسيق مع الشركاء في الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم ألمانيا. وقد كانت بهذا المعنى مفاجأة في الجنوب والشمال أيضاً.
ولم تتردد المستشارة الألمانية انجيلا ميركل في أن تؤكد قبل أيام، وتحديداً بتاريخ 30 يناير الماضي، في باريس وبحضور الرئيس نيكولا ساركوزي، أنه ينبغي لمشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» أن يكون «قضية الجميع»، وتقصد بالطبع «جميع البلدان الأوروبية».
كما ركزت على رفضها القاطع والمانع لقبول «تقسيم للعمل» على الصعيد الأوروبي من نوع «أوكرانيا لنا، ومنطقة المتوسط لكم»، ثم «اعترفت» أن ألمانيا مجاورة لبحر الشمال ولبحر البلطيق، وليست للبحر المتوسط»، لكن عدم الجوار الجغرافي «المباشر» لا يعني أبداً «غياب المصالح».
لا شك أن الرئيس الفرنسي لا يترك أية فرصة دون أن يؤكد أنه «من الطبيعي» مشاركة جميع البلدان الأوروبية في جميع مشاريع الاتحاد المتوسطية بكل أشكالها وهذا ما عبّر عنه قبل أيام بحضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالقول: «أولئك الذين يريدون التقدم عليهم أن يفعلوا ذلك معاً؛ لكن أولئك الذين لا يريدون ذلك ينبغي أن لا يمنعوا الآخرين من التقدم»، كلام واضح وعد وشبه تحذير.
وفيما هو أبعد من «الحذر» الألماني المعلن .. ومن «تحفظ» بلدان البلطيق على المشروع أصلاً.. هناك إحساس سائد في أوروبا بعدم الحماس، أو بالأصح بغياب أي حماس لمبادرة صدرت عن بلد واحد، بل وعن شخص واحد، وحتى لدى بلدين متوسطيين أوروبيين كبيرين وقريبين من فرنسا هما أسبانيا وإيطاليا.. باختصار تبدو فرنسا معزولة حول المشروع المتوسطي.
هناك معطى آخر تمكن صياغته بسؤال: هل مشروع الاتحاد المتوسطي الفرنسي، مهما كانت تسميته يعني موت مسيرة الحوار الأوروبي المتوسطي التي انطلقت في برشلونة عام 1995؟ إذا كان الأمر كذلك قد يكون من المطلوب والمنطقي شرح أسباب ضرورة تجاوزها، هذا مع الإشارة إلى أن «تجاوزها» جرى بقيادة طرف واحد بينما كانت هي بجوهرها ذات طبيعة جماعية، ولم تستنفد وقتها، بل وكانت تسمح ببعض الأمل.
يضاف هنا معطى ثالث، وربما تحدٍ جديد لمشروع الاتحاد من أجل المتوسط، وذلك حيال ما كان سبب «الفشل» الذي واجهته مسيرة برشلونة.. والمقصود به عدم المساهمة الفاعلة في إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أساس قرارات الأممالمتحدة. هذه المسألة كانت ولا تزال ذات أهمية مركزية في حوض المتوسط.
الرئيس نيكولا ساركوزي أعلن بصراحة ووضوح أنه لن يجعل من هذا الصراع عقبة أمام تحقيق مشروعه المتوسطي، وأكد بالتوازي مع هذا أن لإسرائيل مكانها، ومكانتها، في المشروع، الترجمة الواقعية لغياب حل للقضية الفلسطينية هي أن ما سبب الفشل سابقاً قد يسببه لاحقاً، وأنه لابد من أفكار جديدة ومبادرات جديدة.
وتبرز هنا أيضاً مسألة الأمن في منطقة حوض المتوسط التي يمكن وصفها أنها بؤرة توترات حقيقية في العلاقات الدولية، وإذا كانت البلدان الأوروبية تنظر إلى قضية أمنها من خلال مشكلة الهجرة والمهاجرين الذين يتوافدون إليها من بلدان الجنوب، فإنها لا تبحث غالباً سوى في النتائج وليس في الأسباب.
بتعبير آخر ان الخلل في التنمية ينجم عنه خلل في الأمن، وبتعبير أوضح لا يمكن الفصل بين الأمن والتنمية الاقتصادية والتنمية البشرية والديمقراطية السياسية. فما هي الآفاق التي يفتحها مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» حيال هذا كله؟!. بصيغته الحالية يمكن وصفه انه «غير واضح» حيالها.
وسؤال آخر: من الذي سيتولى تمويل المشاريع المتوسطية المستقبلية وخطط التنمية وعمل الهيئات المختصة والمتطلبات الأخرى الكثيرة لتحقيق حسن سير «البنى المتوسطية الجديدة»؟
الاتحاد الأوروبي ليس معنياً «بالتعريف» بتمويل خطط هو ليس صاحبها في الأصل، وقد كانت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل في غاية الصراحة حول هذا الموضوع عندما أكدت أنه لن يتم صرف «يورو واحد من الميزانية الأوروبية المشتركة على مشاريع جرى إقرارها أصلاً خارج الهيئات الأوروبية المختصة، بالنتيجة تدل المؤشرات كلها على أنها من الصعوبة بمكان.
هذا إذا لم تكن الاستحالة الكاملة، أن تكون الميزانية المتوسطية، المفترضة في الأفق على مستوى الطموحات المطروحة في المشروع الفرنسي الساركوزي. الميزانية «الأقل» تعني مشاريع «أقل» وشركاء «أقل».
وكلمة أيضاً عن المسألة التركية، أو ربما الشوكة التركية التي قد يراد استخراجها من الجسد الأوروبي الموحد عبر «مبضع» الاتحاد من أجل المتوسط، هذا لم يصرح به أحد، ولكنه موجود في النوايا إلى درجة أن بعض البلدان الأوروبية أعلنت رفضه وليس أقلها وزناً ألمانيا، كما رفضته تركيا شكلاً ومضموناً ك «إطار بديل» عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الموعد القادم حول الاتحاد من أجل المتوسط هو بعد أشهر قليلة وفي باريس بناء على دعوة من الرئيس الفرنسي للبلدان المعنية، وكل شيء يجري وكأن الوصول إلى المحطة النهائية في المسيرة المتوسطية أصبح بمتناول اليد، ولكن من يستطيع أثبات أن هناك قطاراً أصلاً؟ التقدم شيء والهروب إلى الأمام شيء آخر؟ ولعل أبناء الجنوب يدركون ذلك أكثر من غيرهم كما علمتهم دروس واقعهم.
ما أريد قوله اليوم، وما قلته سابقاً، هو أن مشروع الاتحاد المتوسطي أو الاتحاد من أجل المتوسط هو مشروع طموح، مشروع حلم، لكن الواقع يجعل أعراض الأزمة «بائنة عليه» وهل نقول أعراض الشيخوخة المبكرة؟! عن صحيفة البيان الاماراتية 12/2/2008