الخاصرة الرخوة جورج علم أدت الغارة الأمريكية على منطقة البوكمال السورية إلى تأزيم أمريكي غير مبرر قد يكون له انعكاساته على الأوضاع الداخلية في لبنان، وخرجت دمشق من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، وراحت تعيد ترتيب أوراقها انطلاقاً من الساحة اللبنانية، كونها الخاصرة الرخوة والتوصيف هنا سوري الذي يمكن أن تدخل منها الرياح غير المؤاتية. ووفق الحسابات المتداولة، فإن قوى أربع تحاذرها دمشق: الأصولية في الشمال وداخل المخيمات الفلسطينية، والتي شكا منها الرئيس بشار الأسد في الآونة الأخيرة. ثم المحور العربي الذي لم يشارك كما يجب في القمة العربية، والذي يتخذ من الساحة اللبنانية قاعدة ومنطلقاً لتوجيه رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى سوريا لفك تحالفها الاستراتيجي مع إيران، والعودة إلى الحضن العربي من بابه الواسع، والمساعدة على قيام دولة القانون والمؤسسات في لبنان بعد انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، والتفاهم على قانون جديد للانتخابات، والاستعداد لإجرائها في الربيع المقبل، وفق ما نص عليه اتفاق الدوحة. أما العنصر الجديد، هو أن القاهرة قد كشفت عن قرعتها- كما يقول المثل الشعبي اللبناني الدارج- أي أنها قررت الانخراط مباشرة، والعودة إلى الساحة اللبنانية، ومن الباب العريض لمراقبة الأداء السوري في لبنان بعد الإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين والاستعداد لفتح السفارات وتبادل السفراء بين كل من بيروتودمشق في حدود 22 نوفمبر الجاري، ذكرى عيد استقلال لبنان، وقد أوفدت القاهرة نائب رئيس مخابراتها اللواء عمر القناوي الذي أمضى في بيروت أياماً عدة والتقى كبار المسؤولين والقيادات إن في الموالاة أو المعارضة، وطرح اسئلة حول الحوار، والمصالحات، والانتخابات النيابية المقبلة، والارهاب، والجماعات الأصولية في الشمال وبعض المخيمات، إلى سائر المواضيع التي تشغل الرأي العام اللبناني. والحقيقة تقال إن مصر لم تكشف النقاب عن ماهية دورها في لبنان، ومدى جديته، وإن كان الرئيس حسني مبارك قد اغتنم فرصة وجوده في باريس حيث أعلن بعد محادثاته مع الرئيس نيكولا ساركوزي من أن أبواب مصر ستكون مشرعة أمام مختلف القيادات اللبنانية للمساعدة على إنجاح الحوار الوطني، وتحقيق المصالحات، وتحصين الساحة الداخلية في وجه الاستهدافات الخارجية. إلا أن الأكثرية تتعامل مع الدور المصري الصاعد في لبنان وكأنه حاجز في وجه المد السوري الذي سيبلغ ذروته بعيد إقامة العلاقات الدبلوماسية بهدف قيام نوع من التوازن، والحؤول دون أن يصبح لبنان من جديد مجرد جرم صغير يدور في الفلك السوري. ولا يغفل عن بال دمشق العامل الإسرائيلي في لبنان، حيث المسرح مؤاتي، والخلايا ناشطة من كل حدب وصوب، وفي كل يوم ومع شروق كل شمس يمكن اكتشاف شبكة إن لم تكن على علاقة مباشرة مع الموساد الاسرائيلي، فإنها تحاول أن تخدم أهدافه على أفضل ما يرام. ويبقى العنصر الأكثر ارتياباً من الوجهة السورية هو الدخول الأمريكي على الخط اللبناني حيث يغادر موفد ليحل آخر، ودائماً تحت شعار دعم لبنان والعمل على تسليح الجيش، وتعزيز قدراته. ويعرف السوري جيداً أن الهدف من هذه الغيرة الأمريكية غير المسبوقة وغير المبررة على لبنان والجيش اللبناني هدفها تحويل البلد إلى قاعدة للمخابرات المركزية الأمريكية السي آي آي للعب الدور الذي يتناسب واستراتيجية واشنطن تجاه الشرق الأوسط، وإخضاع الأنظمة المناوئة، أو التي قد تشكل أدوات رفض واعتراض لما تمليه لعبة المصالح هذه. ولا تجد سوريا بداً من تغيير قواعد اللعبة بعد الغارة الأمريكية على البوكمال، وقد لجأت بدورها إلى العويل على خيارات أربعة لمواجهة الموقف المستجد: تفعيل دور المعارضة في لبنان والاعتماد على حلفائها في مواجهة المخططات الأمريكية التي قد تستهدفها، والتعويل على الجيش اللبناني لكشف الشبكات الاسرائيلية وأنشطتها ومخططاتها، وقد نجح الجيش فعلاً في وضع يده مؤخراً على شبكة ناشطة هدفها القيام بأعمال مخلة بالأمن. ثم مواجهة المد المصري إذا كان الهدف منه التضييق على النفوذ السوري الناشط، والعمل على حشد المزيد من القوات المسلحة السورية على طول الحدود مع لبنان تحت شعار وقف أعمال التسلل وتهريب السلاح والمسلحين، واحتمال القيام بعمليات كومندوس داخل الحدود اللبنانية ضد خلايا إرهابية أو أصولية متطرفة إذا ما ارتأت بأن لعبة مصالحها تقضي بذلك على غرار عملية الكومندوس التي نفذتها القوات الأمريكية في البوكمال، ودائماً وفق المنطق القائل إذا كانت الإدارة الأمريكية تجيز لنفسها القيام بهجوم ما ضد سوريا تحت شعار مكافحة الارهاب، فإنه وبنفس المنطق يحق لدمشق القيام بعملية عسكرية سريعة داخل الأراضي اللبنانية تحت شعار مكافحة الارهاب دون اقامة أي وزن لأي انتقاد قد يصدر عن واشنطن أو غيرها؟! وأمام هذه الأخطار المحدقة يتراجع الحديث عن مصير التمثيل الدبلوماسي إلى حد أن الموالاة التي كانت تريده بقوة، وتطالب بتحقيقه كشرط أساسي، نراها اليوم تتراجع وتتمنى عدم حصوله إلا بعد تنقية الأجواء، وإرساء العلاقات على أسس واضحة، وهذا مطلب يبدو تعجيزياً في ظل إدارة أمريكية مغادرة، وأخرى لم يعرف بعد خيرها من شرها، ووضع عربي متهالك يخاف من نفسه على نفسه في ظل الانقسامات الحادة التي تمزق صفوفه وأيضاً في ظل التحديات الكبرى التي تواجهه إن على مسرح الشرق الأوسط أو العالم في ظل الأزمة المالية- الاقتصادية المدمرة والتي لا يستطيع أحد أن يحدد حجم تداعياتها. أما في لبنان فالمعادلة بسيطة: إذا كان الحوار بخير فاللبنانيون بألف خير، لكن ماذا إذا كان الحوار في مأزق؟!. عن صحيفة الراية القطرية 5/11/2008