العالم اختلف.. فهل اختلفت عيون العرب؟! جواد البشيتي "كوبا" هي التجربة، أو المحاولة، الأخطر في "الحرب الباردة"، فهي "العامِل الجغرافي"، أو "العامِل الجيو استراتيجي"، الذي جعل العالم على شفير حرب نووية بين قطبيه النوويين. و"كوبا"، بحسب منطق تطوُّر "الحرب الباردة" لا تَظْهَر في "الدرجة الأولى" من "سُلَّم" هذه الحرب، وإنَّما في درجته العليا؛ ولكنَّ اختلافاً مهمَّاً قد حَدَث هذه المرَّة. المتَّفَق عليه في وصف العلاقة بين موسكووواشنطن هو أنَّ "السلام البارد" كان جوهرها وقوامها؛ والمتَّفَق عليه الآن، أي بعد "الحدثين" الجورجي والبولندي، هو أنَّ عهد هذا السلام البارد قد ولَّى وانتهى؛ ولكنَّ المختَلَف عليه حتى الآن هو خواص وطبيعة وهوية "العهد (الدولي) الجديد"، أهو "حرب باردة جديدة" أم..؟ "التسمية (أو الوصف)" ليست ذات أهمية، ف "الوليد الجديد" خرج من رحم "السلام البارد"؛ ويمكن الاتِّفاق، لاحقاً، على اسم له. ولقد بدأ "العهد (الدولي) الجديد" ب "التجربة الأخطر"، أي بما يشبه "كوبا"، التي يميل الرئيس السوري بشار الأسد إلى "تثنيتها"، هنا، وسريعاً. "كوبا" بدأت، أو وَقَعَت، إذ وَقَّعَت واشنطن ووارسو اتفاقية الدرع الصاروخية، والتي بموجبها تنشر الولاياتالمتحدة في الأراضي البولندية جزءاً من نظامها العالمي (الصاروخي) المضاد للصواريخ، والمُعزَّز، أو المُكمَّل، برادار قوي تعتزم إقامته في تشيكيا. إنَّ شيئاً من "كوبا" قد شرعت الولاياتالمتحدة تستحدثه (في مستهل "العهد الدولي الجديد") في "الضاحية الأوروبية" للاتحاد الروسي، أي في بولندا وتشيكيا، ف "الجيشان النوويان"، جيش روسيا وجيش الولاياتالمتحدة هما الآن، وبفضل هذا "التجاوُر الجغرافي" وجهاً لوجه. موسكو لا تستطيع الآن أن تَرُدَّ في كوبا (الكوبية) كأن تنشر هناك أجزاء من نظامها الصاروخي "العالمي"؛ لأنَّها ما عادت عاصمة "الاتحاد السوفياتي". وإلى أن تصبح أقوى (إذا ما أصبحت) في مواجهة الولاياتالمتحدة ذات المصلحة الاستراتيجية والدائمة في تقزيم هذا "العملاق النووي (والنووي فحسب)"، فإنَّ من الأهمية بمكان أن تلعب موسكو "ورقتها النووية" في بيلاروسيا. على أنَّ الخشية الروسية من عواقب وتبعات التوسُّع في الرَّد على "كوبا" التي أسرعت الولاياتالمتحدة في زراعتها في بولندا (وفي تشيكيا عمَّا قريب) لم تمنع الرئيس السوري بشار الأسد من أن يسعى في إقناع "ميدفيدف بوتين" بأنَّه يمكن أن يحذو حذو "كاسترو القديم"، فيستضيف في بلاده النظام الصاروخي الروسي "اسكندر" القادر على التغلُّب على أي نظام دفاعي في العالم، على ما يُقال. إنَّ سورية اليوم، وبفضل الوجود العسكري الاستراتيجي، وغير العسكري، للولايات المتحدة في العراق، هي "كوبا" المجاورة للقوَّة الإمبريالية العظمى في العالم، أي أنَّها (سورية) العامِل الجغرافي، أو العامِل "الجيو استراتيجي"، الذي يسمح للجيشين النوويين بأن يكونا وجهاً لوجه. على أنَّ استحداث "كوبا روسية" في سورية، عَبْر نشر "النظام الصاروخي اسكندر" في أراضيها ليس بالأمر اليسير الآن، فقبل ذلك، وتوصُّلاً إلى ذلك، لا بدَّ أوَّلاً من إقامة وجود عسكري بحري لروسيا في ميناءي اللاذقية وطرطوس، ف "اسكندر" يحتاج إلى درع تحميه وهو قيد الإنشاء، وبعد إنشائه؛ وهذه الدرع هي ذلك الوجود العسكري البحري لروسيا، والذي هو ورقة استراتيجية روسية تتريَّث موسكو في لعبها. وإلى أن تستوفي موسكو شروط لعب هذه الورقة يمكن أن تشرع تزوِّد دمشق مزيداً من الأسلحة الضرورية لتحديث الجيش السوري. قبل "المخاض" في جورجيا، وولادة روسيا جديدة، كان إنهاء الولاياتالمتحدة لوجودها العسكري في العراق أقرب إلى "الافتراض" منه إلى "الاحتمال"، وأقرب إلى "الاحتمال الضعيف" منه إلى "الاحتمال القوي"؛ أمَّا الآن فإنَّ خير ما يمكن أن يقال للعراقيين هو انَّ الولاياتالمتحدة باقية عندهم (قوّة احتلال وسيطرة وهيمنة) إلى أن يتوصَّلوا إلى إقناعها بأنَّ العراق أقرب إلى فيتنام منه إلى كوريا الجنوبية، أو اليابان، أو ألمانيا، وإنَّ "الاتفاقية"، التي هي قاب قوسين أو أدنى من "التوقيع"، والتي لأسباب انتخابية صرف لا تريد إدارة الرئيس بوش تسميتها "معاهدة"، هي صعود إلى الدرجة العليا في سُلَّم احتلال الولاياتالمتحدة للعراق، فبدءاً من اليوم الأوَّل من كانون الثاني 2009، يمكن أن تبدأ المرحلة الأخطر والأسوأ من هذا الاحتلال. هذه "الاتفاقية" لن يفهمها، عندما تُنْشَر، على خير وجه إلاَّ من قرأها أوَّلاً "قراءة انتخابية"، ومن ثمَّ "قراءة سياسية استراتيجية". في "القراءة الانتخابية" سنقف على كل ما يؤكِّد أنَّ إدارة الرئيس بوش قد بذلت وسعها لترجيح كفَّة "الفيل" على كفَّة "الحمار"، ففي هذه "الاتفاقية" من "التلاعب الكلامي" ما قد يساعد المرشَّح الجمهوري ماكين في إظهار وتصوير "الحرب" على أنَّها عملٌ بدأ يعطي "ثماره الحلوة"، وفي مقدَّمها "الإعداد الجيِّد" للخروج العسكري للولايات المتحدة من العراق. ومع هذا "التزوير" لنتائج الحرب في العراق، قد يبدو "الفيل" غير متعثِّر هنا، ومتفوِّقاً على "الحمار" ليس في "الحرب على الإرهاب" فحسب، وإنَّما في الحرب على "روسيا التي أشعلت فتيل حرب باردة جديدة". وقبل "الاتفاقية"، رأيْنا إدارة الرئيس بوش تلعب ورقة انتخابية أخرى لمصلحة المرشَّح ماكين هي ورقة إنهاء العزلة العربية لحكومة المالكي، وكأنَّ مؤدَّى الرسالة التي يراد توجيهها إلى "الناخب" هو أنَّ "الحرب" شرعت تطرح "ثمارها الطيِّبة"! بحلول حزيران 2009، قد تَخْرُج "الوحدات القتالية (أو المقاتلة)" من جيش الولاياتالمتحدة من مدن العراق؛ أمَّا سنة 2011، فقد يَحْدُث (بحسب المعنى الحقيقي لبعض فقرات "الاتفاقية") أحد أمرين: "الانسحاب (للوحدات القتالية)"، أو "التمديد". و"الوضع الأمني (الميداني)" هو وحده ما يُرجِّح كفَّة أحد الأمرين، أو الاحتمالين، على كفَّة الآخر! إذا حَدَثَ الأمر الأول، أي إذا ما تحقَّق "الاحتمال" الأوَّل، وهو "انسحاب (الوحدات القتالية)" في نهاية 2011، فلن ينتهي الوجود العسكري للولايات المتحدة في العراق، فجزء مهم من هذا الوجود سيبقى في شكل "قواعد"، لم يُتَّفَق بَعْد على "عددها" مثلاً. ومع "القواعد" يبقى "المُدرِّبون"، فالقوى الأمنية العراقية يمكن (ويجب) أن تظل في حاجة "أبدية" إلى "التدريب"! "الاتفاقية" ليست من أجل العراق وشعبه، ولا حتى من أجل حكومة المالكي. إنَّها من أجل ماكين و"الناخبين"، الذين بفضلها، على ما تعتقد وتتوقَّع إدارة الرئيس بوش، سيقتنعون بأنَّ مقتل 4300 جندي، وإنفاق نحو تريليون دولار، أي 1000 بليون دولار، لم يذهبا هباءً منثورا، وبأنَّ "ضوء الانسحاب" أصبح يرى الآن في نهاية "النفق المُظْلِم"، حتى إذا انتهت الانتخابات، وفاز المرشَّح ماكين، وجاءت سنة 2011، قرَّر الرئيس ماكين، بالاتِّفاق مع حكومة المالكي العراقية، أو حكومة العراق المالكية، وبما يتَّفِق كل الاتِّفاق مع "الاتفاقية"، أنَّ "الوضع الأمني (الميداني)" في العراق لا يسمح بَعْد بإنجاز مهمَّة "الانسحاب"! إيران، ولشيء في نفسها، يشبه ذاك الشيء الذي في نفس يعقوب، تفضِّل "الغموض" على "الوضوح" في موقفها من "الاتفاقية"؛ وكيف لها أن تقف غير هذا الموقف وهي التي عرفت كيف تستمدُّ قوَّة (استراتيجية) من الوجود، أي من التورُّط، العسكري للولايات المتحدة في العراق؟! إنَّها تظلُّ قوية، وتزداد قوَّة، ما بقي "فيل" الولاياتالمتحدة متعثِّراً، ويزداد تعثُّراً، في أرض الرافدين؛ ولولا وجوده المتعثِّر لرأيْنا ضرب إيران عسكرياً فِعْلا ماضيا. الآن، وأكثر من ذي قبل، يجب أن نقف ضدَّ كل محاولة ل "تحرير" الولاياتالمتحدة من العراق، فَلِمَ لا تبقى حيث طول البقاء لا يبقيها؟! والآن، وأكثر من ذي قبل، نصلِّي من أجل أن يلهم الله روسيا "خيراً"، هو "خيار استئناف الحرب الباردة"، ف "السلام البارد" كان النار التي لم تنزل علينا كما نزلت على إبراهيم؛ وعلَّمتنا تجربته، أو يُفْتَرَض أنَّها علَّمتنا، أنَّ "السلام البارد" هو المناخ الدولي الذي فيه لا تنمو، وإنَّما تضمحل، رغبة الولاياتالمتحدة في معاملة العرب (وآخرين) على أنَّهم حلفاء، أو أصدقاء، لها، وكأنَّه، أي "السلام البارد"، هو الموسم لمزيدٍ من التعاون بينها وبين إسرائيل على تعريض العرب لمزيدٍ من العبودية والإذلال! الآن، حيث ذُقْنا الأمرَّين من عواقب "انتهاء الحرب الباردة"، ووجود "السلام البارد"، ما عاد مهمَّاً لون القط في الكرملين ما دام في مقدوره أن يأكل الفأر، أي أن يُوازِن، ولو قليلاً، هذا الجنون الإمبريالي ل "الحكومة العالمية"، فالولاياتالمتحدة ليس في مقدورها أن تقود العالم من غير أن تأتي بحكومة لها كحكومة بوش؛ وليس في مقدورها أن تظل القوَّة العظمى في العالم إذا ما حكمتها حكومة كحكومة بوش! لقد انهارت "الإمبراطورية السوفياتية والعالمية لروسيا"، فتعزَّزت وتوسَّعت "الإمبراطورية العالمية للولايات المتحدة". كان العراق مهدها، فإذا به يصبح لحدها. كانت، وما زالت، "عالمية"؛ ولكنَّها إمبراطورية محاصَرة من الداخل، ومن الخارج؛ ويكفي أن يعود العالم إلى نعيم "الحرب الباردة" حتى نرى "الإمبراطورية العالمية للولايات المتحدة" تسير مُسْرِعةً متسارِعةً نحو "الجحيم"، فهي ما كان لها أن تَصْعَد، وأن تزداد صعوداً، من غير أن تستجمع، في الوقت نفسه، الأسباب المؤدِّية حتماً إلى الهبوط والسقوط.. فَلْنُعْطِ (نحن ضحايا "السلام البارد") روسياالجديدة قبل، ومن أجل، أن تُعطينا؛ فهنا يمكن ويجب أن ينتهي "الاستعطاء"، بوصفه جوهر وأساس علاقة العرب بالولاياتالمتحدة، وأن يؤسَّس لعلاقة عربية جديدة مع روسياالجديدة، قوامها "العطاء المتبادل" في مواجهة "الحكومة العالمية" التي استنفدنا الجهد والوقت في تجربة "تربيع دائرتها"! عن صحيفة الايام الفلسطينية 25/8/2008