الحياة 22/8/2008 قد يذهب المرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية، باراك أوباما، ضحية لتشدد رئيس حكومة روسيا فلاديمير بوتين، ولاستقالة الرئيس الباكستاني برويز مشرف، ولمواقف الرئيس السوري بشار الأسد الذي عرض استضافة الصواريخ الروسية وتوفير ميناء طرطوس للأسطول الروسي في مياه المتوسط تضامناً مع موسكو في مواجهتها مع عواصم حلف شمال الأطلسي (ناتو). القاسم المشترك بين الثلاثة يحمل عنوان الأمن القومي الاميركي وينطوي على القلق من طبيعة باراك أوباما ومواقفه الداعية تلقائياً الى التساهل مع الآخر. فلا أحد يريد انتصار الانطباع بأن أميركا ستعاقب نفسها على حرب العراق بلوم الذات، والخوف من الإقدام، وتكبيل أياديها عسكرياً وسياسياً، والتقوقع في ديبلوماسية الإطالة والمماطلة رداً على الاستفزاز أو التطاول. بل ان هناك الآن نزعة جديدة بين الأميركيين، تنعكس باستفادة المرشح الجمهوري جون ماكين، قوامها الرد على المواجهة بالمواجهة وابلاغ كل من يعنيه الأمر بأن القومية الأميركية حية وان المصلحة الأميركية تتربع على أعلى سلم الأولويات. فلقد أيقظ فلاديمير بوتين جيلاً أميركياً لم يكن يفهم معنى الحرب الباردة، ليتعرف فجأة الى الشخصية السوفياتية ذات النزعة القومية العسكرية الروسية. فخاف. خاف وبدأ بعضه يتساءل ان كانت لدى باراك أوباما الخبرة وكذلك الاستعداد للتصدي للأخطار الآتية من روسياالجديدة. تزامن هذا الخوف مع تطورات باكستان التي تشبه صندوق مفاجآت متفجرة. فهذا بلد يصب في الأمن الاستراتيجي الاميركي ويحتوي على شتى أنواع الخوف: الانتشار النووي، وتفشي التطرف الاسلامي، واحتمال اختباء اسامة بن لادن في أراضيه، وكابوس احتمال اندلاع فوضى لا توجد خيوط قادرة على ضبطها. وعلى ضوء اضطرار برويز مشرف للاستقالة، برزت التساؤلات ان كان باراك أوباما على تلك الدرجة من الحنكة السياسية ليفهم معادلات باكستان الداخلية، وتلك مع جيرانها، ليتمكن من اتخاذ القرارات بالسرعة التي تتطلبها التطورات أحياناً. قد لا يكون باراك أوباما المرشح الوحيد ليكون ضحية بوتين والأسد - وهما الراغبان جداً بأن يكون هو الرئيس المقبل للولايات المتحدة وليس جون ماكين، افتراضاً منهما ان طبيعته وشخصيته السياسية أكثر أماناً وأمناً لهما. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ايضاً مرشح لأن يكون الضحية - باختلاف الوقع والعواقب المترتبة على أوباما الضحية وهو المرشح، عن ساركوزي الضحية وهو الرئيس. ساركوزي تسرع في الوقوع في الفخ الروسي عندما لم يتنبه الى أهمية «السيادة» و «وحدة الأراضي» الجورجية، وهو يهرول الى التباهي بالعثور على حل فوري للتطورات المتسارعة في اوسيتيا الجنوبية. ظن انه «اكتشف البارود» في النقاط الست التي صاغها وانه بتأجيله الكلام عن السيادة ووحدة الأراضي حقق انجازاً. واقع الأمر ان ساركوزي ورط الاتحاد الأوروبي الذي يترأسه حالياً. غروره أعماه، وفريقه انقاد منصاعاً وراءه ومعه تماماً حيث إرادة بوتين: بين مخالبه. كرر ساركوزي مع بوتين الخطأ نفسه الذي كان ارتكبه مع الاسد وهو خطأ التسرع والانسياق، بمزيج من التعالي والدفاع عن النفس للتغطية على نقص الغرور من دون التفكير المعمق بالعواقب والافرازات. ولربما مقارنة الأسد لعلاقة روسيا وجورجيا بعلاقة سورية مع لبنان مفيدة في هذا الإطار، لأن ما فات ساركوزي هو الإدراك والتحسب والاستدراك للغايات والأهداف الروسية في جورجيا وللغايات والأهداف السورية في لبنان. فجأة، وجد ساركوزي نفسه أمام وضوح اعتزام روسيا ضم اوسيتيا الجنوبية وابخازيا بغض النظر عن التعهدات والانجازات والنقاط الست. وهو سيجد نفسه أمام وضوح اعتزام سورية استعادة السيطرة على لبنان، ومساعدة ايران في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، واستخدام باريس لحرمان المحكمة الدولية لمحاكمة المتورطين في الاغتيالات السياسية في لبنان - وفي مقدمها اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه - من الزخم والفعالية. فإذا كان ساركوزي تورط في ديبلوماسية التفاهم، واستنباط حسن النيات، واعطاء الوقت والمهل للمماطلة والتسويف أو لفرض أمر واقع، فذلك النمط من العمل الديبلوماسي والسياسي ستنكشف سيئاته من خلال اجراءات بوتين والأسد. وهذا بدوره سيضع أوباما - الداعي تكراراً الى ديبلوماسية مماثلة - في خانة التشكيك بفلسفته وبشخصيته وبعقليته وبفكره السياسي. هذا لا يعني ان بوتين والاسد سيخرجان منتصرين دائمين سوية مع حلفائهما في ايران والصين وفنزويلا كما مع «حزب الله» و «حماس» وغيرهما من المنظمات في مختلف بقاع العالم. بوتين، مثلاً، ارتكب اخطاء استراتيجية لربما يدفع ثمنها لاحقاً، سواء فاز جون مكاين بالرئاسة أو فاز بها باراك أوباما. فبوتين سحب نفسه خارج نادي الكبار حتى وان افترض انه يبقى محتفظاً بمرتبة «الكبير» لدولة روسيا. فهو تصرّف بطريقة جعلته يفقد فجأة تلك الثقة به شريكاً في أكثر من مجال. أصبح طرفاً مشكوكاً في نياته فيما كان شريكاً في حاضر اليوم وتطلعات المستقبل. الخطأ الآخر الذي ارتكبه بوتين سهواً على الأرجح هو أنه ربما أطاح الرجل نفسه الذي كان يتمنى أن يصبح الرئيس المقبل للولايات المتحدة. جنّد رأياً عاماً ضده (بسبب ما يفعله في جورجيا) وضد فكرة التفاهم معه، وضد مبدأ التساهل الديبلوماسي والسياسي في أنماط اللجوء الى المحادثات والمفاوضات لحل الأزمات. أي أن بوتين لربما نسَفَ منطق الأحاديث الودية كأداة سحرية لحل المشاكل الكبرى كما تمنى أوباما. ثم أن بوتين أعاد الأنظار الأوروبية الى ما عرفته من «عدائية» روسية. ذكّر بأن الغرب أنقذ الاقتصاد الروسي قبل عقد تقريباً وأعفاه من ديون باهظة ليجد نفسه بلا امتنان بل كهدف تستبيحه الامبراطورية النفطية الروسية التي يصوغها بوتين وشركاؤه. ولهذا مردود سلبي. بل إن المردود لن يكون أوروبياً أو اميركياً حصراً وانما قد يواجه بوتين ارتداداً عليه من طبقة الرفاهية الروسية التي ستقول له: ماذا فعلت ولماذا تعرض رغدنا ورفاهيتنا وحقنا بالاستمتاع للانتقاص والغضب؟ فهم في عقر ساحة الرفاهية الأوروبية بعدما ذاقوا طعم التلذذ بإنفاق الأموال ما بعد المرحلة السوفياتية وهم معرضون الآن لاحتمال تلقي العقاب إذا ازدادت الأمور تدهوراً. والأرجح أنها ستتدهور أكثر ثنائياً مع الولاياتالمتحدة من جهة ومع دول أوروبية من جهة أخرى. وأيضاً، هناك مؤشرات على تدهور العلاقة في الاطار الجماعي ليس فقط على صعيد العلاقة مع «الناتو»، أو في اطار الG-8 الذي يجمع كبار الاقتصاد العالمي، بل أيضاً داخل مجلس الأمن، حيث ابرة ميزان التوافق أو المواجهة وحيث تنعكس أجواء الانفراج أو التشدد على القضايا الاقليمية. في الماضي القريب جداً والذي يتلامس مع الحاضر، كان هناك توجه لدى البعض - ومنه ربما معسكر باراك أوباما - بأن الحاجة لروسيا لا غنى عنها بالذات نحو ملفات مثل ايران. حتى إدارة جورج بوش ركزت على مركزية وحيوية العمل الجماعي في الشأن الايراني والحاجة الماسة الى الاجماع حوله. الآن، وبعدما اخرجت روسيا نفسها من مرتبة الشراكة، لا عتب على الولاياتالمتحدة أو غيرها، إذا قررت استبدال الاتكال على الشراكة الروسية للغزل الدائم مع ايران واعطاءها الفسحة بتوجيه إنذار حاسم اليها لتكف عن مسيرة اقتناء السلاح النووي واخضاع العراق لها واستخدام لبنان قاعدة عسكرية عبر «حزب الله». فلغة العقوبات الجماعية ستكون معطلة تماماً في مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي - الصيني عندما يتعلق الأمر بالجمهورية الاسلامية الايرانية، او بتجاوزات الديكتاتور موغابي في زمبابوي والحكم الاستبدادي في ميانمار، أو بالموقف من سورية. لكن رقعة الحماية من العقاب والمساعدة على التسويف ستزداد ضيقاً من الآن فصاعداً نتيجة انهيار العمل الجماعي وفي عهد الانتماءات الى تحالفات الأقطاب. ومع هذا الانهيار، سينفتح الباب أكثر على الاجراءات الانفرادية خارج مجلس الأمن الدولي. أي ان ايران مثلاً، أو سورية، قد تخسر تلك «الحماية» التي حصلت على تعهد بها من روسيا بسبب حروب «الفيتو» وسقوط العمل الجماعي في مجلس الأمن. فإذا افترض الرئيس السوري انه وجه «ضربة معلم» بطعنه الاتحاد الأوروبي، ونسفه الجهود الرامية الى ترغيب الولاياتالمتحدة به وإرسال سفير لها إليه، فإنه سيكتشف أنه أقحم نفسه قبل الأوان مع قطب روسي في مرحلة اللاحسم في العلاقة الروسية - الأوروبية والأميركية - الروسية. فهو قد يدفع ثمناً مضاعفاً لهذا الموقف الذي أعلن فيه تقديم سورية قاعدة لصواريخ روسيا وميناء كمحطة للأسطول الروسي. هذا كلام يسمعه جيداً كل من باراك أوباما وجون مكاين. فإذا كانت لدى أوباما رغبة ملحة للتفاهم مع الاسد ونظامه، فإن تلك الرغبة انحسرت جدياً في أعقاب العرض السوري. وإذا كانت لدى أوروبا رغبة في احتضان الرئيس السوري، فإن تصريحاته ستؤخذ على أنها تدخل في غير مكانه في زمن غير موات. وإذا كانت دمشق اتكلت على الحماية المستمرة لها من روسيا فقد تجد نفسها بلا درع الحماية. في هذا المنعطف، سورية ليست في الرادار الأميركي كما ايران أو باكستان أو العراق أو روسيا. العراق دخل رقعة التفكير بالاستقرار فيما باكستان دخلت رقعة المخاوف من اللااستقرار والفوضى. إدارة جورج بوش اخطأت كثيراً عندما افترضت أن بالإمكان إعادة بينظير بوتو لتتولى الجانب المدني من الحكم فيما يحتفظ برويز مشرف بالجانب العسكري. لربما نجح تفكيرها لو لم يتم اغتيال بوتو بأيد مجهولة. انما في نهاية الأمر، تقع باكستان اليوم في أيدي المجهول باستثناء ما هو معروف عن فساد زوج بوتو الذي أصبح شريكاً في الحكم وعن تطرف الشريك الآخر نواز شريف وميوله الانتقامية. ربما يسجل في السيرة التاريخية لبرويز مشرف أنه الرجل الذي نظّف المؤسسة العسكرية العليا من التطرف الاسلامي. لكن المرحلة المقبلة لباكستان مخيفة لكونها صندوق المفاجآت المتفجرة. تطورات جورجيا أدت الى التعرّف على روسيا بوتين التي يريدها أن تتربع على مملكة نفط وغاز عالمية بأي ثمن، وأسفرت عن انخفاض في أرقام الثقة بأوباما في مختلف الولايات الأميركية. تطورات باكستان زادت من التشكيك بقدرات أوباما وبتأثير محدودية خبرته في مجال السياسات الدولية. هذا لا يعني أن الانتخابات باتت محسومة لصالح جون ماكين. انما ما تعنيه الأحداث هو أن الاستراتيجيات التصعيدية للاعبين الدوليين في مرحلة الانتخابات الأميركية سترتد ليس فقط على اولئك الذين يظنون أن هذه المرحلة مواتية للتجاوزات بل قد ترتد عليهم أيضاً من ناحية اطاحة المرشح الذي يتمنى هؤلاء اللاعبون أن يصل الى البيت الأبيض.