الأمن القومي يغير هويته عاطف الغمري نحن جزء من أمة تتحرك في ساحتها الكثير من الأيدي التي تحاول أن تؤثر وتوجه، وبعض هذه الأيدي ظاهر وبعضها خفي أو مستتر. وجزء منها يلعب في الداخل، والجزء الآخر يمارس لعبته من الخارج. وإلا ما كانت الأمة العربية على هذا القدر من الانقسامات، وهي تتعرض لأخطار ظاهرة على الأمن القومي لدولها، أو على هذا النحو من التحول إلى مجرد متابع لما يزرع فيها من أزمات، وليست شريكاً في صناعة مصيرها، أو حتى القيام بمنع الآخرين من التصرف داخل حرمة أرضها. وهذا يدعو إلى عدم الفصل في نظرتنا لواقعنا، بين ما يجري في الداخل، وما يدور أو يرتب لنا في الخارج. فالخارج ليس واقفا على عتبة البيت العربي، لكنه اقتحم البيت، واعتبر نفسه من سكانه. كما لا يصح أن نغفل عن نظريات تطرح في الخارج، وأن نتعامل معها وكأنها مجرد طرح نظري. ففي السياسة لم يعد أحد يفرق بين النظريات وبين ما يطبق على أرض الواقع. فطالما طرحت منذ بداية التسعينات نظريات، أفرزتها مناقشات وندوات وأوراق عمل، في مراكز الفكر السياسي في الغرب، وفي الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص، وقد تحولت على أيامنا هذه، إلى سياسات واستراتيجيات تطبق عمليا. وهذا جزء من طبيعة وطريقة عمل نظامها السياسي، والذي تمر فيه عملية صناعة قرار السياسة الخارجية، بمراحل من المناقشات الواسعة للنخبة، تتلاقى فيها أفكار تتقارب، وأفكار تتصادم وتتباعد، إلى أن تنضج واحدة من هذه الأفكار، ويحدث من حولها توافق، فتدخل الحيز الرسمي لأعلى مؤسسات صنع السياسة. ومن هذه النظريات، تلك التي تقول: إن الأمن القومي سيغير من هويته في السنوات القليلة المقبلة، أو أنه سيستكمل هذا التغيير الذي بدأ بالفعل، والذي يضع حماية حدود الدولة على قمة أولوياته، بحيث تتصدر هذه الأولويات عناصر مضافة من أهمها: اعتبار بؤر الغضب المتراكم في الداخل، قضية أمن قومي، لا تقل أهمية عن حماية حدود الدولة، وهي البؤر التي تعمقها المشكلات المستحكمة كالبطالة، وارتفاع الأسعار المتجاوز لحدود المنطق المعقول، ومن دون أي مبرر اقتصادي. والنظريات التي تحذر من تجاهل تغيرات المزاج النفسي والاجتماعي للمواطن وتجعل من هذا التجاهل مسألة أمن قومي، حيث لم يعد المواطن قابلا لاحتوائه، كما كان عليه الحال عندما كانت كثير من الدول تملك وسائل الإعلام الموجه، وعندما كانت الحدود مغلقة أمام أي اقتحام خارجي، فاليوم المواطن منفتح وهو داخل بيته على مئات الفضائيات التي تخاطبه وتؤثر فيه وتتحاور معه. كذلك صارت الحدود مفتوحة بفعل ثورة المعلومات، عبر وسائل الاتصال كالموبايل، والفاكس، والإنترنت وغيرها. وهناك النظرية التي كان من المروجين لها الكاتب الأمريكي فيليب بوبيت صاحب كتاب كعب أخيل: الحرب والسلام، الذي قال إن احترام حقوق الأمم في تقرير مصيرها، قد تجاوزتها الحقوق العالمية للمجتمع الدولي. ويرى بوبيت أن العسكريين ومسؤولي الأمن في القوى الكبرى سيضعون خططهم على هذا النحو. وبوبيت يعد من أصحاب نظرية تراجع سيادة الدولة على أرضها، الذي تنبأ بأننا مقبلون على ما أسماه دولة السوق لتحل محل الدولة القومية، التي ستلعب فيها الشركات متعددة الجنسيات أدواراً كانت تقوم بها الحكومات. وإذا كانت السياسات الخارجية للقوى الكبرى في تعاملها مع مختلف الدول، معلنة رسمياً، إلا أن هذا لم يمنع في فترة الحرب الباردة من وجود ما كان يسمى الباب الخلفي للسياسة الخارجية، الذي تدار منه عمليات غير مشروعة، كاغتيال زعماء، وتدبير انقلابات، وإشعال حروب أهلية وإقليمية، ولذلك فإن هناك من يرى أن هذا الباب صار اليوم متسعا، وتمارس منه هذه السياسة. ولا ننسى أن بعض السياسات التي تطبق في منطقتنا الآن، كانت إلى وقت قريب، مجرد نظريات تطرح مثل تلك التي حملت في عام 1994 اسم التدخل في الدول الأخرى لأسباب إنسانية، التي طرحت منذ بداية التسعينات عن تراجع سيادة الدولة، وغروب عصر الدولة القومية. وكان مما أعطى هذه النظريات قوة دفع، ما حدث من تغيير في مفهوم الأمن العالمي، حيث كانت الأممالمتحدة هي المكون الرئيسي لنظام الأمن العالمي، الذي دخلت ضمن مكوناته قضايا كانت تعتبر من صميم الشأن الداخلي لأي دولة، مثل الإصلاح السياسي الذي صار ينظر إليه كمهمة دولية، مرتبطة بالأمن العالمي للمجتمع الدولي، وبالأمن القومي لدول ترى فيه قضية تخصها مباشرة، وتضع له وسائل وخططا ضمن ممارسات سياستها الخارجية. ودخل أيضا ضمن مفهوم الأمن العالمي، موضوع الأمن الإنساني، منطلقا من حماية حقوق الإنسان. وبسبب هذا التغيير في مفهوم الأمن العالمي، والأمن القومي، لم يعد يصلح التعامل مع المشكلتين كل على حدة، بل احتواؤهما معا من زاوية التعامل معهما، وفق استراتيجية الأمن القومي لأية دولة. ولما كان ذلك يحتاج إلى الإلمام الكافي بما تغير في الداخل، وفي الخارج أيضا، والربط بين العناصر المستجدة داخليا وخارجيا والمؤثرة في الأمن القومي، فإن هذا يستدعي أعلى درجات المعرفة والخبرة والتخصص. ولذلك لم يعد هناك فريق يصلح وحده لامتلاك الرؤية وتقدير الموقف، وأن يكون له القرار، والآخرون يكفيهم إبداء الرأي أو الانتقاد. نحن أمام مستقبل أمة، تحتاج إلى حشد عقول أبنائها من أصحاب الخبرة، والرأي والمعرفة، والموقف الوطني المستقل فهكذا تتعامل الدول المتقدمة مع قضية الأمن.. قومياً وعالمياً. كما أننا نتعامل مع قوى خارجية لها استراتيجياتها التي تشارك في صنعها جماعات متعددة من أصحاب العقول والخبرات، وكل منها يقدم ما لديه من تصورات واقتراحات. ويتم النظر إليها جميعا بوضعها تحت عين صناع القرار السياسي، من دون استبعاد لأي منها، ثم انتقاء ما يصلح منها للتطبيق، أو إعادة صياغة مجموعة منها، بضمها معاً في وعاء واحد، لتصبح عندئذ سياسة تتبع. وهذا بدوره يتطلب أن يكون أسلوب التعامل معها، على المستوى نفسه، لتكون هناك بالفعل ندية في التعامل. عن صحيفة الخليج الاماراتية 19/9/2007