حدث ان كنا في منتصف الثمانينيات, نحضر ورشة عمل دراسية, موضوعها صناعة قرار السياسة الخارجية وكان محدثنا في هذا اليوم, الكاتب الأمريكي الراحل جيمس ريستون الذي كان يوصف وقتها بعميد الصحفيين الأمريكيين. وفي أثناء حديثه معنا قال إن الرئيس الأمريكي في معظم الحالات يحرص كل صباح, وقبل أن يبدأ عمله, بقراءة مقالات لأربعة من كبار الكتاب, إثنان منهم من معارضيه, وممن ينتقدونه بشدة. ودافعه إلي هذا التقليد, حرصا من الرئيس علي أن يتنبه إلي أي قرار خاطئ يكون قد اتخذه, وحرص منه علي عدم وقوعه هو نفسه في خطأ يحسب عليه تاريخيا, وحتي لو أن كاتبا منهم يكون قد أخطأ في تقديراته فيمكن للدولة أن تتيح له المعلومات الكاملة لموضوعه. أطرح هذا المثال وهو معمول به في دول كثيرة, فلا يأتي رئيس يضيق صدره بحرية التعبير, ويعتبر من يختلف معه, مارقا, أو خارجا علي الأصول, وبينما نحن الآن نسأل: من هو الأنسب ليكون الرئيس القادم؟ بداية يفترض أن يكون الرئيس واعيا لمبدأ اختلاف الزمن, فلكل مرحلة زمنية قواعد التعامل معها, طالما انك تدير دولة هي جزء من عالم متشابك, ولا تدير مؤسسة أو جمعية. العالم كله ونحن منه قد دخلنا موجة مختلفة من موجات التحولات التاريخية, التي تختلف فيها مكونات الحس الوطني للشعوب, وبنية النظام العالمي, والموارد المتاحة للدول سواء لحل المشاكل, أو للتحديث والتقدم. وعلي سبيل المثال كانت الثورة الصناعية التي بدأت في أوروبا في القرن الثامن عشر, قد استمدت طاقتها الانتاجية من موارد متاحة ورخيصة, ومن ثروات استولت عليها من المستعمرات. وأقامت أوروبا فكرها وسياساتها علي أساس القدرات المكتسبة من الثورة الصناعية, بالإضافة إلي الثمار الاقتصادية والثقافية لعصر النهضة. ثم جاءت الموجة الثانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945, وبداية الصراع الأمريكي السوفييتي, لتصبح الأيديولوجية هي المحرك الرئيسي للسياسات داخليا وخارجيا. وبانتهاء الحرب الباردة عام 1989, تراجع مفهوم الأيديولوجية, ليحل محله, ما أسموه في البداية مبدأ المنفعة, أو المصالح الاقتصادية, وهو ما أدركت قيمته دول صغيرة في آسيا, فوضعت خططا للتنمية الاقتصادية, باعتبارها مفتاح القدرة والمكانة, في النظام الدولي الجديد, واقترن ذلك بسقوط أنظمة الحكم الشمولي, وانفراد فرد أو فصيل بالحكم, وهو ما جعل مثل هذه الأنظمة ضمن جيوب مقاومة لحركة التاريخ ولإرادة والشعوب, سيأتي حتما يوم سقوطها. الآن دخلنا عصر ثورة المعلومات بمفاهيمها المتغيرة, والذي طويت فيه صفحات أفكار ونظريات, تولدت في عصور سابقة, وهو عصر والابداع الخلاق, وانتاج الأفكار التي تتعامل مع زمن مختلف. مصر الآن في مرحلة إعادة بناء الدولة, بعد ان كانت, تسير ضمن جيوب مقاومة التغيير الديمقراطي, والمناهض لحركة التاريخ, وتحتاج مهمة اعادة بناء الدولة إلي رئيس لديه إيمان بدولة ما بعد الثورة, وفهما واعيا لما يدور في الداخل من تطور في الحس السياسي والاجتماعي والنفسي, ولديه رؤية لاستراتيجية إدارة العلاقات الخارجية, في عصر تغيرت فيه الكثير من مبادئ السياسة الخارجية, ومن الدبلوماسية, والأمن القومي للدول. .. رئيس يملك مهارة قراءة التحولات في العالم, وكيف يستخلص من تجارب الآخرين, أفضل ما فيها للنهوض بالدولة. .. رئيس يجمع إلي جواره فريقا قويا من المعاونين, متنوعي الرؤي والخبرات, ويقودهم هو بطريقة تستخلص منهم أفضل ما لديهم, من علم, وقدرة علي التحليل والتبصر بالاحتمالات المستقبلية, وان يعرف انه ملزم وطنيا, وسياسيا, وأخلاقيا بالتحرر من تغليب انتمائه الحزبي أو العقائدي, علي التوافق مع مجتمع متنوع, قد أسلم اليه قيادته. وما دمنا دخلنا الموجة الرابعة من موجات التطور, في ادارة الحكم في العصر الحديث, والتي صعدت فيها القدرة الاقتصادية التنافسية إلي قمة مكونات الأمن القومي, وتمكين الدولة من المكانة والنفوذ اقليميا ودوليا, فيفترض أن يعي الرئيس أن المبدأ الأول في استراتيجيات الدول اليوم, هو كيفية وضع خطط التنمية, والعمل في إطار استراتيجية شاملة للتقدم والنهضة لإنجاز هذه القدرة الاقتصادية التنافسية, بكافة أبعادها من انتاج, وبحث علمي واختراعات, وتعليم, وتدريب للارتقاء بالمهارات وأيضا تعظيم دور القوة الناعمة التي صارت في عالمنا اليوم من أهم موارد قوة الدول ونفوذها, متضمنة وسائل الاتصال, والآداب والفنون, وغيرها. ان رئاسة الدولة هي شئ أوسع في معناها من مجرد كونها مؤسسة سياسية تدير شئون الحكم, فهي ليست مقرا انتقل إليه شخص الرئيس, حاملا معه مشاعره الشخصية والذاتية, التي كان منشغلا بها. فالرئاسة كيان يستوعب في داخله المشاعر الكلية للمواطنين, الذين انتخبوه, وأيضا الذين لم يعطوه أصواتهم. ويتوقف نجاحه من عدمه علي كسب ثقة هؤلاء وهؤلاء, من خلال وضوح وشفافية القرار الذي يتخذه, ومعرفة الناس به, وبأسبابه, وملابساته, وهو ما يجعل الشعب شريكا في القرار, ولو بطريق غير مباشر, لأن القرار المغلف بالغموض يثير التشويش العام, ويوسع فجوة الثقة بين الناس والرئيس. منصب الرئاسة ليس للهواة, ولا للمنتمين لذواتهم, والمنغلقين علي عالم ضيق, تحجب عنهم أسواره, الالمام بما حوله, بل هو لأصحاب الرؤية المتنورة الممتدة إلي الآفاق البعيدة التي تلم بما في الداخل, وما في الخارج, وهي التي تستخلص تلك القدرة من المعرفة, والعلم, والخبرة, وبعد النظر, والايمان بأن في مصر ثورة لم تكتمل, وكل الأنظار لن تحيد عنه, وهي تراقب ما الذي سيفعله حيال هذه الثورة. المزيد من مقالات عاطف الغمري