لم يعد إيجاد مجلس للأمن القومي في مصر، اختيارا لنظام الحكم القائم، لكنه أصبح ضرورة في إدارة شؤون الدولة، في عصر تتغير فيه مبادئ ومفاهيم الأمن القومي للدول، وتتعدل النظريات السياسية والاقتصادية والأمنية، التي طال زمن الأخذ بها لعشرات ومئات السنين، كما لم يعد ذلك أمراً تنفرد به القوى الكبرى، صاحبة الاستراتيجيات الممتد عملها على مستوى العالم، لكنه أصبح جزءاً أساسياً من عمل أنظمة الحكم، التي عرفت قيمته، ومنها الدول الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية والتي اختصرت سنوات طويلة في مسيرة التنمية، وقفزت بسرعة في بناء مجتمع مزدهر داخلياً، وفي إقامة دولة لها مكانتها ونفوذها خارجياً . ولا يغيب عن أحد، أن النظام السابق كان فاقداً للفكر الاستراتيجي في إدارة السياسات الداخلية والخارجية، ولوجود مجلس أمن قومي، وهو ما أدى إلى ممارسات لاستراتيجيات القوى الخارجية، ومجلس أمنها القومي، كانت تدار في مجالنا الحيوي، الذي اتسم بالفراغ الاستراتيجي . هنا قد يكون من المفيد النظر إلى نماذج من مجالس الأمن القومي، ذات التاريخ الطويل والتجارب، سواء من ناحية تكوين مجلس الأمن القومي، والتطور الجاري في طريقة عمله، أم من ناحية تعامل هذه المجالس مع بلدنا، في ظل النظام السابق، ثم من بعد ثورة 25 يناير . ولعل من أبرز الدول التي عرفت هذه النماذج، والتي استفادت من تجربتها الدول الصاعدة في العالم الثالث، الولاياتالمتحدة، وبريطانيا . . وأبدأ مقال اليوم بالتجربة الأمريكية . كانت بداية إنشاء مجلس الأمن القومي الأمريكي في عام ،1947 في عهد الرئيس ترومان، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد حدثت له في ما بعد نقلة كبرى، عندما تحول إلى قوة محركة للسياسة الخارجية، في سنوات حكم نيكسون في السبعينيات، بفضل الدور الذي لعبه مستشار الأمن القومي حينئذ هنري كيسنجر، والذي جعل من المجلس مؤسسة حديثة ومتطورة، حتى صار يوصف باللجنة التي تدير شؤون العالم . والمجلس يضم رسميا: الرئيس، ونائبه، ومستشار الأمن القومي، ووزيري الخارجية والدفاع، وعدداً محدوداً من الوزراء المختصين، يحددهم الرئيس إذا كان موضوع الاجتماع، متصلاً بحدود مسؤوليات هذا الوزير، لكن القوة الرئيسة المحركة في المجلس، تتكون من مجموعة صغيرة، مقربة من الرئيس، من مستشارين من ذوي المعرفة، والتخصص، والفكر الخلاق، يعاونهم 200 من الخبراء، منهم تحليل المعلومات وتقديم المقترحات . ظل المجلس يباشر مهام إدارة السياسة الخارجية، في إطار الاستراتيجية التي بدأ العمل بها منذ عام ،47 ولنحو خمسين سنة، إلى أن أعلن جورج بوش (الابن) استراتيجيته الجديدة للأمن القومي في 20 سبتمبر/ أيلول 2002 لكنها سقطت بعد ست سنوات، لأنها افتقدت الوضوح، وتقبل الواقع الذي يتغير فيه العالم، وخضوع إدارة بوش للفكر الإيديولوجي للمحافظين الجدد، الذي يقوم على فرض الهيمنة الأمريكية على العالم، وعدم تقبل حقائق دولية جديدة، منها صعود متزايد لقوى دولية، وتراجع نسبي للقوة الأمريكية . وحين جاء أوباما فإنه أجرى مراجعة للمبادئ الأساسية، للاستراتيجية الأمريكية، تعترف بأن النظام الدولي ينتقل إلى عصر تعدد القوى الدولية، وأن أمريكا لم تعد تستطيع وحدها التصدي لتهديدات أمنها القومي، أو أن تدير منفردة عملية حل النزاعات الدولية، وأنها تحتاج شركاء يتعاونون معها، وهو ما جاء في نص كلمات أوباما نفسه . وأكدت استراتيجية أوباما المعدلة أن حدود الأمن القومي تبدأ من الداخل، وهو ما تضمنته الوثيقة الصادرة في ،2010 بعنوان “تجديد أمريكا وقيادة العالم”، والتي أكدت أن البناء المتين للدولة والمجتمع في الداخل، هو المصدر لقوة ونفوذ أمريكا في الخارج، وأن هناك ثلاثة أعمدة يبني عليها الأمن القومي هي: الاقتصاد، والأمن الداخلي، وتحسين صورة النموذج الأمريكي في نظر العالم . وأوصت الاستراتيجية المعدلة بتجديد قدرات مجتمع أجهزة الأمن القومي، وإنشاء جامعة للأمن القومي، ذات مناهج متطورة، لتخريج كوادر جديدة، والتدريب المستمر في مراكز متخصصة . لقد صار معروفاً وواضحاً في فترة حكم النظام السابق في مصر أن استراتيجيات القوى الكبرى التي تأخذ بأنظمة مجالس الأمن القومي - اعتادت أن تتحرك في مجالنا الحيوي، والممتد في شكل فراغ استراتيجي عربي عام، باعتبارنا منطقة ساكنة استراتيجياً، بلا فعل أو رد فعل، وبالتالي أقامت سياساتها الخارجية تجاهنا، على مبدأ الثبات للمدى البعيد، لكن ثورة 25 يناير، وإشعاعها على موجات الربيع العربي، أرغمت، هذه الدول، على الدخول في فترة مراجعة شاملة لسياساتها، وظهرت في مناقشات مسؤوليها، ومجالس أمنها القومي، وجهتا نظر متعارضتان، إحداهما ترى ضرورة التغيير، اقتناعاً منها بأن ما حدث هو ثورة حقيقية، تنقل القرار السياسي من يد أنظمة استبدادية، إلى يد الشعوب، ووجهة النظر الثانية تقول: إننا لسنا على يقين من اكتمال أهداف الثورة، وبالتالي علينا أن ننتظر، فقد لا يحدث ما يدفعنا لتغيير ما نحن عليه . معنى ذلك أن صياغة استراتيجية أمن قومي لمصر، بمفهومها الشامل للداخل والخارج، وكذلك وجود مجلس أمن قومي، بمعايير الكفاءة، والمعرفة، والتخصص، يمثلان أولوية قصوى، فنحن جزء من عالم تغيرت فيه، مفاهيم الأمن القومي، بل والأمن العالمي للمجتمع الدولي ككل . إن مجلس الأمن القومي، يفترض أن يكون مستودعاً غنياً، يضم العقول النابغة، والمتفوقة، التي ينهل نظام الحكم، من علمها وخبرتها، ما يضمن لصناعة القرار السياسي، أن تكون خالصة للمصلحة العليا للدولة وللشعب، قادرة على نهضة الدولة وازدهارها في الداخل، وتعظيم مكانتها في العالم . نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية